أرشيف صحيفة البلاد

قصة قصيرة .. المتســـول

كان الشارع حينئذ هادئاً وخالياً من المارة، لم تكن المصابيح قد اضيئت الا قبل لحظات فقط، ظلت السماء محمرة في الافق، مرت هبة ريح خفيفة، وكذا قط اسود .
تمدد المتسول متثائبا وهو جالس عرض حائط عمارة محطمة وقديمة، اكتنف نظرته الدائرية الشارع الضيق والهادئ لسوق .
جر اليه المركن الخشبي وعد قطع النقود التي كانت موجودة فيه، ثم ادخل يده في جيب قميصه الذي كان ولاشك ابيض .اخرج منه نقودا اخرى، عدها هي ايضا قبل ان يضع الكل في كيس قنبي صغير جداً .ثم بقي لهنيهة متأملاً .اخرج من الجيب الآخر قطعة نقود شاهدها ملياً، انها قطعة اعطتها له المرأة ذات الوشاح كانت تعطيه مثلها كل صباح عند رجوعها من السوق، حيث كانت تلك اجمل لحظة في يومه .لقد كان يحس بالفرح وهو يراها تبرز من بين صفوف البضائع المعروضة ثم تعبر الزقاق
قاصدة اياه .كان ينظر الى مشيتها الهادئة والمضبوطة والفاترة نوعاً ما، لا يفارقها وشاحها الملتف حول عنقها .وحينما تصل اليه يتبادلان النظرات، ثم تمد له قطعة يأخذها وتنصرف هي .كان يترقب مجيئها كل صباح .عدا الاحد الذي لم تكن تأتي فيه ابداً .لذا فقد كان لا يحب هذا اليوم، رغم ما كان يجنيه خلاله من نقود كثيرة .
وبالضبط كان اليوم التالي احداً .
ارجع القطعة الى الجيب الذي اخذها منه .
الاحد هو اليوم التالي .
طأطأ رأسه بحزن .
برز من السوق قط اسود مر امامه بهدوء، ثم اتبعه نظرات .اختفى القط خلف كومة اخشاب نخرة .قطب المستول .
قط اسود
نذير شؤم
نهض ببطء ولم اغراضه .عصا وصرة ادخل فيها المركن الخشبي .
حينها احس بألم يعصر خاصرته .
توكأ على عصاه وبدأ يمشي الهوينى، اذ لم يكن لديه اي مبرر للاسراع ما دام الوقت كله امامه، ففي السبعين من العمر
يمتلك المرء عادة حرية التصرف في الوقت قبل ان يتمكن منه الزمن .
بعيداً، دوت صفارة تمدد الصوت، ثم تلاشى شيئا فشيئا .
كان المتسول ما يزال يمشي .
انطلقت امامه سيارة كالسهم ثم غابت عند مفرق طرق .
تابع المتسول مسيره .
في الجانب الآخر من الرصيف تهاوت بقوة كومة من علب قديمة وفارغة، بالتأكيد عمل فأر، حاول المتسول بعينيه تبين
الحيوان في غبش الظلمة .
لم ينتبه لقطعة حجر تعثر فيها فوق الرصيف .
توقف من شدة الألم ووجه منقبض، ثم لوى قليلاً قدمه اليسرى التي ارتطمت بالحجر .
الرجل اليسرى
نذير شؤم .
لحظات وبعد ذلك تابع مسيره وهو يعرج
عاود التفكير بحزن في الغد
اليوم التالي هو يوم أحد
يوم كئيب في حياته البئيسة
لن يتمكن من رؤية المرأة ذات الوشاح
بدأ يفكر فيها .فما سر اعجابه الكبير بها؟
لم تكن لا ذميمة ولا ذات جمال خاص .ومهما يكن، فقد كانا متباعدين في السن .
لم يكن هناك اي شيء يميزها عن النساء اللاتي كن يرتدن السوق .
لا شيء .
باستثناء وشاحها الملازم لها .
باستثناء مشيتها .
باستثناء نظرتها الهادئة .
باستثناء طيبتها .
اليوم التالي يوم احد .
لن يراها .
انه حزين .
لماذا لا يهدأ تفكيره فيها طول الوقت؟
لانها كانت كل يوم تعطيه نقوداً؟ كلا !
إذاً لماذا؟
ربما لانها تذكره بأغلى انسان في حياته .
ابنته ابنته الوحيدة
لقد مر على وفاتها، وهي في السادسة عشرة من عمرها، عشرات السنين، لم يستطع ابدا ان ينساها ..
اجل ! ربما كان هذا هو السبب .
كانت السماء انئذ مليئة بالنجوم
كان المتسول ينظر وهو يمشي
فجأة عبرت السماء كرة من اللهب مرت كالبرق، ثم اختفت بسرعة .
غض المتسول الطرف خفية، لقد لقن له وهو طفل صغير، ان هذه الظاهرة تنذر بموت شخصية ما .
نذير شؤم آخر يلوح في الافق .
وزيادة على ذلك فاليوم التالي يوم احد .
في أحد اروقة المستشفى ممرضة تمشي، كانت تمسك بقارورة حقن .حارصة على عدم ازعاج المرضى الممدودين فوق بوريات
على الار ض، فيما كان بعضهم فوق نقالات، شأن العجوز الذي جيء به اليوم الماضي ليلاً، توقفت الممرضة عند العجوز وقامت
بفك قاوروة الحقن الفارغة ثم استبدلتها باخرى مملوءة .ظلت هنيهة تنظر الى وجه الرجل العجوز الذي لم تكن بادية عليه
علامات المعاناة .
لقد وجد فوق الرصيف .
كانت تبدو عليه علامات التعب وكان تنفسه بطيئاً، بدأت الممرضة ترقبه للحظات عندما فتح ببطء عينيه، قابلت نظرته
نظرتها، كانت عيناه غائرتين .
محص المتسول النظر في الممرضة .
لاحظ حول عنقها وشاحاً ابيضا .
ابتسمت الممرضة في وجهه .
بدوره ابتسم المتسول، ثم ببطء اغمض عينيه .
بعد هنيهة لاحظت الممرضة التي لم يحد بصرها عنه، انه انقطع عن التنفس، لكن بسمته ظلت جامدة الى الابد .
واخيراً يوم احد سعيد .
إنه الاخير !