ملامح صبح

قراءة في نص (العابرين ) لـ (عبدالله الكايد)

رؤية – د . محمد الرفيدي

العابرين
شعر- عبدالله الكايد

كل ماعاثوا فـ عرض الغافلات،الغافلين
ينجرح منّي طرف.
أي مبدا وأي عقل وأي قلب وأي دين
يسلب الناس الشرف.
قم نغنّي فـ اول الحارة لكل العابرين
دام جلستنا قرف.
امش يابو رمش..حابس دمعةٍ زرقا لمين؟..
فيه رمشٍ ماذرف؟!..
من متى والدمع يتغلّى على عين الحزين
كِنّ هالدمعة ترف.
صاحبي صاحبك مثلك كان ياما كان طين
بس مع السيل انجرف.
تدري انّه اول الغاوين في بال السنين
وانّه آخر من عرف.
كان ما يسجن طيور النور،ليه اصبح سجين؟..
كان أبله واعترف..
صاحبي صاحبك شاعر وانت سيد العارفين
داخل النص انحرف.
صاحبك ماعاش زي ماودّه يعيش السنين
ودّه يموت بـ شرف.. عبدالله الكايد،أحد الأسماء التي شُغِلت مؤخراً بهمّ لإبتكاره التجديد في الشعر العامي على وجه الخصوص،وهو من الشعراء الذين قرأت لهم مقتطفات من هنا وهناك،وقد يكون عدم قراءتي له من قبل أو اطلاعي على تجربته هو الذي حال- فعلاً-دون معرفته المعرفة الشعرية الكاملة،وكل ما استطيع حمله في ذاكرتي لهذا الشاعر الأنيق لقاء أجراه معه أحد الشباب المكيّين(لا أذكر اسمه) عبر وسيلة التواصل(سناب شات)،وفي ذلك اللقاء فقط استطعت التعرف على طرف من تجربة عبدالله الكايد،وفي واقع الحال أنه يتوجب على الأديب- أياً كان-والمعاصر على وجه الخصوص،عدم الإستهانة بذلك المدى الذي يمكن أن يحدثه عبر وسائل التواصل الاجتماعي،فقد كان ذلك اللقاء بوابة الدخول-على الأقل لي أنا-إلى عالم عبدالله الكايد..أماعند الحديث عن هذا النص،فإننا نجد أن الكايد يعمد إلى محاولة لتشكيل نص عامي جديد،ليس من الناحية التضمينية للنص ومايحمله من دعوة مبطنة للكتابة بشكل آخر،وإنما حتى من الناحية الشكلية للنص نفسه،فالذي يتمعّن في عمودية النص(وهو كذلك من حيث الانتساب الشكلي) يجد صدراً طويلاً،يمكن للشاعر من خلاله بث الفكرة فيه بشكل مريح،ويتوقع القارئ-بالمقابل-أن يجد عجزاً يقابل ذلك الصدر آنف الذكر،لكن الكايد يفاجئ القارئ بعجز لا يقل أهمية من حيث الكثافة الشعرية عن الصدر،غير أنه في الشكل غير متوازن مع صيرورة الصدر،وهذه الأشكال الشعرية التي يمكن القول بأنها لا تنتسب إلى الشكل التفعيلي،ولا إلى الشكل الحر،يمكن-على مضض -القول بأنها تنتسب إلى الشكل العمودي،لوجود قافية متسقة مع جميع الأبيات الموجودة في النص،فهل اعتبار مثل هذا النوع من النصوص عمودياً يمكن أن يخلق حالة من البحث في أوساط المهتمين بالشأن الشعري؟..أتمنى أن يكون انتصارنا جميعاً للشعر،لأنه شعر فقط.على أية حال،بعيداًعن الخوض في شرعية انتماء هذا النص للنسق العمودي في الشعر،تبقى لغة الشاعر هنا لغة متكافئة مع شكلية النص الجديدة، وأنا لا أقول الجديدة بمعنى أنه لم يُسبَق الشاعر إلى مثل هذا،لا،ولكن على الأقل منذ بدأت ثورة التجديد في الشعر العامي على وجه الخصوص وحتى هذه اللحظة لم يسبق لي-أنا على الأقل-قراءة نص كهذا،أعني:نصاً جامعاً للتجديد على المستويين الشكلي والتضميني،سوى ما يمكن القول عن نص قديم للشاعر إبراهيم الخالدي،الذي أظنه هجر الشعر العامي إلى غير رجعة،ونص الخالدي-وإن لم يحضرني بحذافيره- لكنه أيضاً لم يكن شفافاً كنص الكايد هذا،بمعنى أن الخالدي تعمّد إلى حد ما خوض المغامرة على حساب تقنية النص التضمينية،فأتى نص الخالدي بارعاً في الشكل،على خلاف ماتضمنه من شعر،وهنا يكمن ذكاء وقوة الشاعر الشعرية،فعملية التوازن بين التجديد في الشكل والتجديد في المضمون هو ذلك الذي يُحسب للشاعر،وأنا أذكر أن شعراء قبل الخالدي أيضاً قد كتبوا ما أسموه بالقصائد(الأوتوماتيكية)،مع الفارق في الشكل، فقد أتت قصائدهم على نحو يشبه البحر الذي لا ساحل له،ومن هؤلاء-على سبيل المثال- الشاعر الكبير حمد بن هادي المسردي،تبعه على نفس المنوال شاعر قحطان في الجنوب الشاعر محمد بن مسفر الشنّاني،وقد سبق هؤلاء جميعاً أستاذ الشعر والحكمة في عصره الشاعر الكبير بديوي الوقداني،الذي يقول في مطلع قصيدة له:
يابارق”ن”لاح فـ القطر اليماني بات نوّه يقود
/دن الرعد وامطرا،إلى أن يقول:يامحمل الهند،جابوك النشاما من بلاد الهنود/
جديد ومشجّرا،وإذا قلنا بأن الكايد قد استطاع خلق مايشبه العلاقة المتكافئة بين شكل النص ومايتضمنه من معان جديدة،فإن علينا التدليل على ذلك، ولنقرأ استهلاله لنصه هذا،الذي يقول فيه:كل ماعاثوا فـ عرض الغافلات:الغافلين/ينجرح مني طرف،الشاعر هنا خارج العلاقة البينيّة،بين الغافلات والغافلين،لكنه في ذات الوقت داخلها،وبقوة،فالغافلات والغافلين هما محور البيت،وهو ما يمكن أن ينبَّه إليه الشاعر ،سواء كان هذا يرضيه أولا يرضيه،أعني:فعل الإعثاء نفسه.لكننا حينما نقرأ عجز البيت ندرك أن الشاعر يأبى مثل هذا الخُلُق،ولذا نجده يتدخل كمحور ثالث،مؤكداً على استهجانه لمثل هذا التصرف.وكأن الكايد يريد منا التعرف عليه،لكن ليس في الصورة المكرورة، التي تعودناها من كثير من الشعراء،وهي الحديث عن الذات،فالأنا هنا في شعر الكايد لم تطغ على النص،وحينما وُجِدت لم تكن متضخمة،وإن كانت قد تجلت في آخر النص بشكل غير واضح،وهذه مهمة الشاعر الذكي،الذي يريد إيصال الصورة المثلى للناس،لكن ليس في ثوب التجلّي الذي يجعل الناس يتقززون منه،بل في ثوب المستتر الذي تهمّه الرسالة المُؤداة ،أكثر مما يهمه أن يصل هو.ولذا نجده يؤكد في البيت الثاني على مايريده من المجتمع ..أي مبدأ وأي عقل وأي قلب وأي دين/يسلب الناس الشرف؟..وكأنه يقول:بأن من يتعرض لعرض الغافلات،فكأنما لا مبدأ له ولا عقل ولا قلب ولا دين.هذه الرباعية التي يدندن حولها الكايد هي تماماً ما يُجمِع الناس عليه،وسلب هذه المقومات الأربعة من المتعرّض للغافلات يجعله حتماً بلا إنسانية.ولذا لن نجد فيمن يتصف بهذه الصفة من مقومات الإنسانية شيئاً،فهو بلا مبدأ ولا عقل ولا قلب ولادين.وحتى يعرّفنا الكايد على نفسه أكثر ، فنحن حتى البيت الثاني من نصه هذا لا نعرف عنه سوى أنه من الخُلُق الكريم بحيث يترفع عن المساس بأعراض الغافلات-كما يسمّيهن-وهذه المفردة بالمناسبة استلها الكايد من القرآن الكريم،فناسبت أن يوظفها في نصه هذا على سبيل استحقاقها للنسق العام في النص،وإلا لكان بإمكانه استبدالها بقوله(المؤمنات) أو(الصالحات) أو(المظلومات-مع الأخذ في الاعتبار إلى ثقل الوزن الذي يمكن أن تحمله هذه المفردة-)ولم يقل:(المحصنات) فربما لم يكُنّ كذلك،لكنه قال:الغافلات.وهي أعم في المعنى من غيرها،فإذاً هي مقصودة ولا شك.وهو هنا يشير إلى قوله تعالى:(والذين يرمون المحصنات الغافلات…الآية)ولم يشر إلى ماتضمنّه آخر الآية من قوله تعالى:(لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة) لعلمه أن مثل هذه النتائج ليست بيده،وأن دوره هنا كشاعر إنما ينتهي إلى توضيح موقفه من هذا التصرف فقط.أكرر:إلى البيت الثاني فقط والكايد يتمسك بإعلان موقفه كإنسان وكشاعر من تصرف مشين كالتعرض لأعراض الغافلات-كما يسمّيهن-لكن يبقى السؤال:هل هذا هو مايريد الشاعر منا معرفته في نصه هذا؟..الجواب:لا،بطبيعة الحال،فلم يزل في نَفْس الشاعر بوحاً آخر،وهو أنه يريد منا معرفة الوجه الآخر لعبدالله الكايد،الذي هو بالمقابل:الشاعر الكامن في داخله،وليس عبدالله الكايد الذي يكره التعرض لأعراض الغافلات.فكيف له أن يحدثنا عن نفسه حديث المحبّين،لا حديث من يستبسل في الكلام عن أمجاده وتطلعاته..إنه حتى وهو يحدثنا عن نفسه لم يبدأ من نفسه!!بل بدأ من الآخرين،تماماً كما استهل نصه هذا،فقال:قم،نغني فـ اول الحاره لكل العابرين/دام جلستنا قرف،يأخذ بيد صديقه،الذي قد يشاركه الحزن،ليس فقط على عرض أولئك الغافلات،وإنما على أشياء أُخَرى،ستتبين لنا في تتمة النص.امش يابو رمش،حابس دمعة”ن”زرقاء لمين؟..فيه رمش”ن”ماذرف ،هنا يؤكد الشاعر على أمرين: الأول:حجازيته المفرطة،فقوله:(امش يابو رمش) موروث حجازي،يعرفه من عاش حواري الحجاز وتقلب في شوارعها.الثاني:أن الحزن صفة عامة لكل من يحمل ذات الهم الذي يحمله الكايد وصديقه،بدليل قوله:فيه رمش”ن”ماذرف ؟!..إن الكايد في نصه هذا لم يجاوز صاحبه في حديثه عن نفسه،ولربما تحدث عن نفسه من خلال صاحبه،وهذه قمة الحرفنة في الحديث عن الذات..تمعنوا في قوله:صاحبي،صاحبك مثلك،كان ياماكان طين،وقوله:تدري انه أول الغاوين في بال السنين وقوله:كان مايسجن طيور النور،ليه اصبح سجين؟.وقوله: صاحبي،صاحبك شاعر،وانت سيد العارفين وقوله:صاحبك،ماعاش زي ماوده يعيش السنين ونحن هنا لم نشر إلاّ إلى صدور أبيات القصيدة فقط،مع العلم أن في عجز كل بيت من الأبيات السالفة الذكر مايشير إلى مثل هذا المعنى،لكني أدرك تماماً أن الشاعر لو أراد الحديث عن ذاته بشكل مباشر وتلقائي لأمكنه ذلك من خلال صدور الأبيات التي أشرت إليها ،لكنه أعرض عن هذا،هو فقط أراد انتشال صاحبه من كآبة الجلوس بين المارة في الحارة التي غفل أكثر مرتاديها من الشعراء عن الحديث عنها،وفضّلوا متابعة شعراء البادية ممن يتقنون فن وصف أدواتهم البدوية بشكل عادي ومكشوف.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *