عرض: منير عبدالقادر
قدمت الباحثة السعودية د. هدى بنت عبدالغفور أمين ورقتها البحثية في اللقاء العلمي السنوي التاسع لجمعية التاريخ والآثار بدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، حيث تناولت دراسة الباحثة واقع الزراعة في احواز جدة وظهيرها الجغرافي في العصور الاسلامية الوسيطة، حيث سردت د. هدى عبدالغفور كافة الملامح المتعلقة بنشأة الزراعة في جدة وثرواتها الزراعية.
الثروة الزراعية من أهم مصادر الحياة الاقتصادية لأي بلد من البلدان، كما أن للزراعة في الإسلام منزلة سامية ومكانة عالية والاستمداد بها أعم نفعا وأوفى فرعا. وقد أشاد المولى عز وجل بالعمل بنعمة الزراعة التي لابد من شكره عليها. كما جاء في فضل الزراعة أحاديث نبوية كثيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم: \"ما من مسلم يغرس غرسا، أو يزرع زرعا، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة\".
وعن ثروة جدة الزراعية في العصور الوسطى، أي من القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي، وإلى القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي، فإن كتب الرحالة الذين وفدوا إلى بلاد الحجاز سواء لأداء فريضة الحج أو الزيارة، وكذلك كتب المؤرخين المعاصرين لتلك الفترة أو لجزء منها، قد جاء فيها بعض المعلومات عن الزراعة والتي توهم الباحث غير المدقق بأن جدة مثلها مثل كثير من بلاد الحجاز قليلة الخصب، فقيرة في الزراعة، ليس بها قرى أو أي مصدر من مصادر المياه الكافية لقيام أي نوع من الزراعات، باعتبار أن مناخها يميل بشكل ملحوظ الى الجفاف، وارتفاع نسبة الرطوبة بها، فضلا عن ان المناطق المرتفعة بمحاذاة ساحل جدة قد عملت على صد القدر الأكبر من الرياح المحملة بالسحاب، مما جعل الكثيرين يصفونها بالفقر حينا، وعدم الخصوبة أحيانا أخرى.
إلا أن الباحث المدقق والمتخصص في الوقت نفسه لابد له ان يفرق بين مدينة جدة المعروفة عبر تاريخها، ومنطقة جدة أو ولاية جدة أو نيابة جدة في تلك الحقبة أو محافظة جدة في الوقت الحاضر، وألا يقبل بهذا الأمر على علاته كأمر واقع، وسنده في ذلك ما جاء في المصادر المعاصرة من اشارات كثيرة، كفيلة بأن تمكنه من ازالة الغموض الذي يكتنف الأضاع الزراعية في جدة، والخروج بفكرة واضحة عن حقيقة الاوضاع الزراعية هذه. ومع قبولنا فكرة \"ان مناخها يميل بشكل ملحوظ الى الجفاف\" فإن الجفاف لم يكن بالشكل الفظيع الذي قد يفهم من هذه العبارة، وإلا كيف لنا ان نفسر ما ذكره بعض الرحالة عن كثرة أعداد صهاريج المياه في داخل جدة وخارجها، والتي كانت معدة من قِبَل أهل جدة لتخزين مياه الأمطار والسيول التي تتعرض لها. كذلك كيف لنا ان نفسر ما قاله ابن حرداذبة المتوفى سنة 346هـ/ 957م عن الأحوال المناخية في الحجاز واليمن بوجه خاص عندما قال: \"إن أهل الحجاز واليمن يمطرون الصيف كله، ويخصبون في الشتاء\". وليس لهذه العبارة من معنى سوى ان الاحوال المناخية للحجاز بوجه عام وجدة بوجه خاص كانت مختلفة في القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي، عنها فيما بعد. ويؤكد ما ذهبنا اليه كلام المقدسي البشاري الذي زارها في القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي في أثناء حجه مرتين، مرة سنة 354هـ/ 965م، والأخرى سنة 367هـ/ 977م عندما اشار الى قلة المياه بها ولم يشر الى ندرتها فقال: \"غير أنهم في تعب من الماء مع أن فيها بركا كثيرة ويحمل إليهم الماء من البعد..\".
كذلك ذكر ابن جبير الذي زارها عام 579هـ/ 1183م \"أنه بخارج هذه البلدة ـ يقصد جدة ـ مصانع ـ أي صهاريج للماء ـ قديمة تدل على قدم اختطاطها، ويذكر أنها كانت من مدن الفرس، وبها جباب منقورة في الحجر الصلد يتصل بعضها ببعض، تفوق الاحصاء كثرة، وهي داخل البلد وخارجه، حتى انهم يزعمون ان التي خارج البلد ثلاثمائة وستون جُباً ومثل ذلك داخل البلد، وعاينا نحن جملة كثيرة لا يأخذها الاحصاء..\".
وقال عنها ابن المجاور الذي زارها حوالى عام 621هـ/ 1220م من أنه كان يوجد في جدة خمسمائة صهريج بباطن البلد، وبظاهر البلد مثلها، أي أن عدد الصهاريج بها قد بلغ ألف صهريج حسب قوله، منها صهاريج عامة يستفيد منها ومن مائها عامة الناس في جدة، ومنها صهاريج خاصة.
وفي بدايات القرن الثامن الهجري/ الرابع الميلادي زارها الرحالة المغربي ابن بطوطة عام 730هـ/ 1329م على وجه التحديد فقال عنها: \"وصلت جدة، وهي بلدة قديمة على ساحل البحر يقال إنها من عمارة الفرس، وبخارجها مصانع قديمة، وبها جباب للماء منقورة في الحجر الصلد يتصل بعضها ببعض تفوق الاحصاء كثرة، وكانت هذه السنة قليلة المطر، مسيرة يوم..\". ووجود هذه الصهاريج بتلك الكثرة يجعلنا نرجح أن الجفاف كان معقولا، وإلا كيف تسنى لأهل المدينة ملء مثل تلك الأعداد الكبيرة من الصهاريج أو الخزانات والاستفادة منها على مدار العام.
كما أنه من المعروف أن المدن الإسلامية ذات الأهمية الدينية قد اتصفت بالفقر، وعدم وجود موارد طبيعية كبيرة، ووقوعها في وديان غير ذات زرع، وذلك لتظل بمنجاة من الترف الذي هو سبب هلاك القرى والمدن، ولذا فإن الغالب في هذه المدن ان تكون غير مرغوبة السكنى من اصحاب السطوة والمترفين، غير مأثورة إلا من الراغبين في الحياة الدنيا الحريصين على نعيم الآخرة. ولم تشذ مدينة جدة عن هذه القاعةد، فهي نفسها ليست مدينة زراعية ولكن الله حباها بكثير من المناطق الزراعية التي عوضتها عن هذا الفقر والقريبة منها في الوقت نفسه، وخصوصا الأودية التي تقع في جهة الشمال منها، مثل وادي خليص، ووادي رابغ، ووادي قديد أو الى جهة الشرق منها، مثل وادي فاطمة والذي يعرف بعدة اسماء منها وادي مر الظهران، أو وادي الشريف، ثم وادي ستارة بين بطن مرد عسفان عن يسار الذاهب الى مكة، وعلى ظهر هذا الوادي واد مثله يعرف بساية وآخر يعرف بالسائرة، ووادي هدأة الشام، وذلك لأن منطقة جدة كانت مساراً لوديان عميقة تقطعها من الشرق الى الغرب في العصر الجيولوجي المطير مثل وادي غليل، ووادي قويزة، ووادي بني مالك، ووادي مريغ وهو أعمق تلك الأودية ويصب في شرم (خليج) أبحر. أو بعبارة أخرى انه إذا كانت لظروف المناخ أثرها الواضح في جعل مدينة جدة غير ذات زرع، فإن الله سبحانه وتعالى عوضها عن ذلك بمنطقة الوديان القريبة منها، والتابعة لها في الوقت نفسه، كثيرة الخصب والنماء والمياه العذبة طوال مدة البحث.
هذه المناطق الزراعية هي التي يمكن ان نطلق عليها اسم الظهير الزراعي لمدينة جدة، وهي عبارة عن مجموعة من الاودية العميقة في جبال الحجاز، وتجري في هذه الوديان مياه السيول والامطار، ومن بينها أودية قوية عنيفة تتحدى صعوبة الأرض وعوائقها لتصل الى البحر الأحمر، ومنها ما يتجمع فيه الماء فيستفيد منه السكان، وتمثل أحواض تلك الأودية مراكز أساسية للتجمعات البشرية، وللنشاط الزراعي وعمليات الري، وتكثر الزراعة على ضفاف هذه الأودية، نظرا لخصوبة تربتها التي يتراكم عليها الطمي بكميات وفيرة.
ومن الأماكن القريبة من جدة والتي تمثل إحدى مناطق الظهير الزراعي لجدة بلدة \"البحرة\" وهي منطقة عامرة في منتصف الطريق بين جدة ومكة وقد عرفت أيضا باسم القرين نسبة الى الأكمة الصغيرة البارزة التي بطرف بلدة البحرة من الشرق. وقد وصفها العياشي بأنها: \"مزرعة كبيرة يجلب منها بطيخ كثير الى مكة مشهور عندهم بالجودة\". ومن مناطق الظهير الزراعي حول مدينة جدة منطقة الساحل المطلة على البحر، وهي الممتدة من جبال تهامة شرقا والبحر الأحمر غربا، وان كانت منطقة شددية الحرارة قليلة الزراعة إلا ما زرع على المطر، حيث يكثر فيها الحبحب أي البطيخ\". كانت هذه بعض الإشارات التي تؤكد وجود ظهير زراعي لجدة، والآن ننتقل الى نقطة أخرى من موضوع بحثنا وهي العوامل التي أدت الى قيام الزراعة في جدة.
المناخ:
أول ما يسترعي النظر في هذا المجال هو عامل المناخ وأثره في الحياة الزراعية في جدة. هذا المناخ الذي يتميز بالرطوبة والحرارة، ويسيطر على اغلب منطقة الحجاز بوجه عام ومدينة جدة بوجه خاص. وقد يبدو غريبا مع وجود مسطح مائي وهو البحر الأحمر في الغرب وهو أخدود يفصل بين قارتي آسيا وافريقيا.
وهو امتداد مائي يبدو للوهلة الأولى انه كفيل بما ينتج عنه من بخر، أن يجعل المنطقة أميل الى الرطوبة النسبية. ولكن بعض العوامل الطبيعية حالت دون ذلك، ومن ثم أدت الى الجفاف، وذلك راجع الى ان هذا البحر لا يشكل إلا سطحا ضيقا مقارنة ببعض البحار الداخلية الأخرى، مثل البحر الأابيض المتوسط أو البحر الأسود، أو المسطحات المائية الهائلة مثل المحيطات، ومن هنا فإن أثره من حيث الرطوبة غير كاف لكسر الجفاف. كما أن رياح السموم الحارقة تستوعب اغلب البخر، وتحول دون تحوله الى امطار لبعض الوقت.
هذه الحقيقة المناخية هي التي جعلت الرحالة الذين زاروها يصفونها بالفقر حينا وعدم الخصوبة أحيانا أخرى، كما أنها تفسر لنا السر الذي دفع ببعض السكان ممن يرتبط نشاطهم الاقتصادي بالحياة الزراعية الى السكنى في مناطق الأودية، حيث المناخ أكثر ملاءمة لهم، ثم يأتون الى مدينة جدة في المناسبات والمواسم. وإن كانت كتب الجغرافية القديمة قد بخلت علينا فيما يتعلق بالأحوال المناخية السائدة في منطقة الظهير الزراعي لجدة، إلا أننا نستطيع الاستفادة من بعض الاشارات التي أوردتها بعض المصادر المعاصرة، والتي يتضح منها ان هذه المنطقة تمتعت بمناخ أفضل من مناخ مدينة جدة نفسها، هذا المناخ كان أحد العوامل التي ساعدت على قيام زراعة كبيرة بها. مثال ذلك ما يرويه لنا السخاوي المتوفى سنة 902هـ / 1496م في ترجمته للشريف بركات بن حسن بن عجلان بن رميثة الحسني المكي المتوفى سنة 859هـ / 1454م من أنه امتلك بوادي مر الظهران عدة قرى من منطقة ارض خالد، بل وحرص الأشراف الحسنيون مثله على تملك معظم قرى الظهر الزراعي. وهذا الحرص منه ومنهم على امتلاك هذه القرى يمكن تفسيره في ضوء ان الزراعة في هذا الوادي كانت تمثل استثمارا جيدا، وفي الوقت نفسه ان المناخ كان عاملا حافزا على هذا الاستثمار.
وتضيف الدكتورة فاطمة عبدالعزيز سليمان الحمدان ان هذه الاودية التابعة لجدة ومكة تتميز بأن \"مناسيب المياه الجوفية تكون قريبة من قيعان هذه الأودية، فقد تصل الى عمق نصف متر تحت السطح.. مما يسهل عملية استثمار هذه المياه سواء للأغراض الزراعية أو الشرب وهو أمر بالغ الأهمية..\" ويؤكد في الوقت نفسه ان مناخ هذه الاودية قد ساعد على نزول امطار كثيرة ساعدت على امتلاء العيون والآبار الموجودة في هذا الظهير الزراعي المهم لا بالنسبة لمدينة جدة وحدها، بل ولمدينة مكة المكرمة التي تم تزويدها بكثير من منتجات الظهير الزراعي، كما يقول عاتق بن غيث البلادي ان وادي مر الظهران الذي ءيبعد عن جدة قرابة خمسة وعشرين كيلا \"من الأودية الفحول في الحجاز، وكان من اغزرها مياها، حتى قيل ان ثلاثمائة عين كانت تجري فيه.. وهو من أطول أودية الحجاز ايضا. وان منطقة مر الظهران تمتعت بقدر معقول من الأمطار التي تسقط عليها والتي تتحول احيانا الى سيول، مما جعل الجو ممتعا والنسيم عليلا منعشا..\". ثم ننتقل الآن الى عامل آخر من عوامل قيام الزراعة في تلك الأودية وهو:
القوى البشرية:
من المعروف ان العنصر البشري يشكل أحد أهم المقومات الأساسية للزراعة وبما ان جدة تعد البوابة الرئيسة لبلاد الحجاز عامة ومكة خاصة ولذا فقد استقطبت عددا من المهاجرين العرب والمسلمين الذين وفدوا للحج او التجارة وآثروا المقام في هذه المدينة وضواحيها ليصبحوا بمرور الزن جزءا من نسيجها الاجتماعي العام. كما ينبغي ان نشير الى ان بلاد الحجاز بوجه عام كانت لها جاذبيتها الخاصة لدى كثير من المسليمن من شتى انحاء العالم العربي والاسلامي طوال عصورها التاريخية، وان بعض ابناء العالم العربي الاسلامي قد فضلوا الإقامة فيها على العودة الى بلادهم الاصلية، يؤكد ذلك ما ذكره الرحالة الفارسي ناصر خسرو في رحلته للحج عام 440هـ/ 1048م عندما قال: \"أديت فريضة الحج بعون الله سبحانه وتعالى، وقد حدث ان جاءت قافلة عظيمة أتت للحج من بلاد المغرب.. ولم يعد كثير منهم الى بلاد المغرب..\". ثم جاء بعده الرحالة المغربي الشهير ابن جبير عام 578هـ/ 1183م ليذكر لنا في حديثه عن بلاد الحجاز بوجه عام، والمنطقة بين الطائف وجدة بوجه خاص انه \"قد جلب الله إليها من المغاربة ذوي البصارة أي الخبرة والمعرفة ـ بالفلاحة والزراعة فأحدثوا فيها بساتين ومزارع، فكانوا أحد الأسباب في خصب هذه الجهات، وذلك بفضل الله ، عز وجل، وكريم اعتنائه بحرمه الكريم، وبلده الأمين..\" وهو في حديثه هذا يعتبر شاهد عيان على ما رآه بعينيه، ومعنى كلامه هذا أنه قد حدثت نقلة حضارية مهمة في أحوال مكة وجدة الزراعية بوجه عام والمناطق الزراعية المتاخمة لها بوجه خاص قرب أواخر القرن السادس الهجري، الثاني عشر الميلادي، وانه شاهد على تلك النقلة الحضارية. والظاهر ان المغاربة انتشروا في بقعة عريضة حول جدة ومكة المكرمة سواء للتجارة ام للزراعة، وانهم وصلوا في انتشارهم الى حلي بني يعقوب، فقد جاء في وثائق الجنيزا كتبها ابن لأمه يخبرها بوصوله الى قوص في صعيد مصر، وأنه سأل عن أولاد عمه فأخبره رجل أنهم في عافية في بلد يقال له حلية. وقد ذكر ياقوت ان حلية هي حلي بني يعقوب.
وإلى جانب الأيدي العاملة الزراعية المغربية، وفدت على جدة هجرات من اليمن، واستقرت فيها وفي ظهيرها الزراعي، وليس أدل على ذلك من أن إحدى حارات \"أحياء\" جدة الأربعة القديمة وهي حارة البحر، وحارة المظلوم، وحارة الشام كانت تعرف باسم \"حارة اليمن\"، ومعظم سكانها من أرباب المهن والزراعة، وأن إحدى قرى الظهير الزراعي لجدة أطلق عليها \"النزلة اليمانية\" وهي الى الجنوب الشرقي من جدة، وسميت بهذا الاسم لنزول اعداد كبيرة بها من أهل اليمن من ذوي الخبرة الزراعية، ولتوافر الأرض الزراعية وعيون الماء بها. ويؤكد لنا هذا مؤرخ مكة الشهير تقي الدين الفاسي، وأن كثيرا من أبناء اليمن قد نزلوا بالظهير الزراعي لجدة، واشتروا به مزارع وحصصا كثيرة من مياه عيونه. كما أورد ترجمة طريفة لأحد أبناء اليمن الذين عانوا الزراعة في إحدى قرى وادي نخلة هو وأبوه واخوته.
والمعروف أن معظم سكان اليمن عملوا بالزراعة واحترفوها منذ العصور الجاهلية القديمة، وفي العصر الاسلامي والذي يعتبر زمن هذا البحث جزءا منه قد كان لديهم رصيد كبير من الخبرة بزراعة مختلف أنواع المحاصيل الزراعية، كالحبوب والفواكه، والخضروات، والرياحين، كما جلبوا بعض أنواع من الأشجار من بلاد أخرى مثل بلاد الهند وزرعوها في بلادهم، ومن المرجح ان يكونوا قد نقلوا هذه الأشجار الى الظهير الزراعي في جدة.
ومن المؤكد أنهم استمروا في جلب بعض الأشجار والنباتات المختلفة وزراعتها في اليمن، وربما في المناطق الزراعية التي نزلوا فيها في ظهير جدة وذلك حتى الربع الأول من القرن السابع الهجري، والثالث عشر الميلادي، حيث جاء في كتاب \"تاريخ ثغر عدن\" أن من النباتات التي جلبت الى اليمن: النارج والأترنج والنارجيل أي شجر جوز الهند، وقد تم جلبها عام 624هـ/ 1227م على يد أمير يدعى ناصر الدين بن فاروت.
كذلك تم جلب نوع من مشهيات الطعام يعرف باسم التنبل أو التامول، وهو ينبت كاللوبيا ويرتقي في أشجاره، وطعم ورقه كالقرنفل وريحه طيبة يمضغونه.
ومن الأيدي العاملة الزراعية التي أدت دوراً مهماً في ازدهار الزراعة في ظهير جدة الزراعي، ونزلت على وجه التحديد بوادي خليص هجرة أعداد كثيرة من صعيد مصر، الذين كانوا يعيشون في بداية حياتهم في مدن الصعيد المواجهة لشاطئ الحجاز مثل: قوص ودفو وقنا وأسوان، ثم ارادوا أن يكونوا أكثر قربا من الحجاز بوجه عام ومكة المكرمة وتوابعها ومنها جدة بوجه خاص، فهاجروا الى جدة، ونزلوا بهذا الوادي، وكانوا يشكلون إحدى قبائله المهمة والكبيرة في الوقت نفسه والتي سميت منذ هجرتها بقبيلة الصعايدة وعاشوا جنبا الى جنب مع المغاربة في كثير من القرى في هذا الوادي الذي يتوافر به كثير من عيون الماء والآبار والسيول.
ويشير مؤرخ جدة ابن فرج المتوفى سنة 1010هـ/ 1686م الى انه منذ النصف الثاني من القرن الخامس الهجري، الحادي عشر الميلادي قد سكن الظهير الزراعي لجدة أناس \"من كل مكان من جميع الجهات\" فإلى جانب من جاء منهم من بلاد المغرب، أو بلاد اليمن، أو من صعيد مصر. جاء البعض الآخر من بلاد التكرور وسواكن.
كما يفهم مما رواه مؤخر مكة تقي الدين الفاسي ان بعض اهل سواكن وهم من العرب الذين بين سواكن وصعيد مصر وفدوا الى الحجاز، واشتغلوا بالزراعة في بعض قرى جدة، وان بعضهم اجتهد في عمله حتى حصل جانبا جيدا من النخيل والمزارع وعيون وآبار المياه بأرض خالد، وأرض حسان من وادي مر الظهران أو وادي فاطمة، وبالمبارك وأرض نافع والبردان من وادي نخلة وغير ذلك، ولقد أكد الرحالة بوركهاردت الذي زار جدة عام 1230هـ/ 1814م ان جدة مقسمة الى عدة مناطق، وان اهالي سواكن يستقرون في جهة الشمال من جدة، ومنطقتهم هذه تسمى منطقة السواكن، ويعيشون في مجموعة منازل فقيرة.
توافر الأرض الزراعية الخصبة:
تميز الظهير الزراعي لجدة بالكثير من القرى الزراعية التي وجدت في الوديان المحيطة بجدة والتابعة لها في الوقت نفسه، وهذه الوديان او الاودية لا يقل عددها بحال من الأحوال عن عشرين وادياً، منها وادي قويزة، ووادي عشير، ووادي قوص أو قوس، ووادي مشوب، ووادي الجفنة، ووادي كنانة، ووادي فاطمة، ووادي الفج، ووادي البغدادية، ووادي الشعبة، ووادي غليل، ووادي ليه، وهدة بني جابر ووادي بني مالك، ووادي مريخ، ووادي خليص، وأخيرا وادي نخلة الشامية. ونظرا لصعوبة الحديث عن هذه الأودية كلها، ومراعاة لطبيعة البحث، فإننا سنتناول بعضها بالذكر، إما لشهرتها أكثر من غيرها وتردد اسمها في كثير من المصادر المعاصرة، وإما بسبب كبر مساحتها.
من هذه الأودية اخترنا وادي فاطمة نسبة الى فتاة تدعى \"فاطمة الخزاعية\" أو نسبة الى السيدة \"فاطمة الزهراء\" رضي الله عنها. ويقول شيخ مؤرخي جدة الحديثة: \"ومما يذكر أنه كان في هذا الوادي 260 عينا جارية تسقي 360 قرية في الزمن القديم\".
هذه القرى أو ما تبقى منها تقع في سهل عرضه في حدود خمسة أكيال، وبطول سبعين كيلا، لكن من الواضح في زمن بحثنا هذا ان هذا العدد كبير جدا، وربما كان هذا العدد في فترة تسبق كثيرا المدة التي حددناها، إذ يذكر ابن المجاور في حديثه عن هذا الوادي قوله: إن المسافة بين مكة و \"بطن مر أربعة فراسخ وهو وادي طيب..\" فلو أن به ذلك العدد الضخم من العيون والقرى أو ما يقاربه لذكر شيئا عن هذا ولم يقل \"وهو وادٍ طيب\".
ومن أودية الظهير الزراعي لجدة وادي قوص أو قوس، وقد اطلقت عليه عدة أسماء أخرى منها وادي بويب، ووادي بريمان، وهو يبعد عن مدينة جدة بمقدار 15 كيلا الى الشمال الشرقي منها شمال أم السلم غير بعيد عنها، وتكثر به المزروعات المختلفة وخصوصا تلك التي تعتمد على مياه الأمطار والآبار والأشجار المتنوعة مثل شجر الأثل الذي يستخدم في المباني. ويقول عبدالقدوس الأنصاري ـ رحمه الله ـ: عن مياه وادي قوص الواقع شمال الرغامة الى الجنوب الشرقي من جدة، ويبدو ان مياه ذلك الوادي كثيرة، بدليل أن جدة شربت منها منذ العصر المملوكي وبوجه خاص في القرن العاشر الهجري السادس عشر الميلادي، واستمر جريانها حتى القرن الحادي عشر الهجري، السابع عشر الميلادي، فانقطعت العين ثم أصلحت وأعيدت مرات كان آخرها في القرن الثالث عشر الهجري، وفي سنة 1270هـ نهض أحد تجار جدة ويدعي فرج يسر بإصلاحها، ثم اعتراها الضعف في سنة 1302هـ/ 1884م.
ومن الأراضي الزراعية حول مدينة جدة تأتي اراضي وادي غليل الذي تشكل مساحته كيلين مربعين تقريبا، وتبلغ المساحة التي تسقط عليها الأمطار نحو خمسة وعشرين كيلا مربعا، ويقرب الماء في هذا الوادي من سطح الأرض وعلى عمق متر ونصف، والطبقة المحتوية للماء كبيرة جدا، ويقدر الماء الموجود بداخل الحوض بنو ثلاثة آلاف مليون جالون أو أكثر، وتسقط عليه أمطار غزيرة مرة أو مرتين في السنة، وكانت تتم الزراعة فيه من خلال الآبار الكثيرة في هذا الوادي، وهذا الوادي يقع حاليا بالقرب من الكيل 16 في طريق جدة/ مكة، كما أنه يقع مجاورا الى الجنوب من وادي مر الظهران، كذلك فهو أحد الوديان التي تقطع منطقة جدة من الشرق الى الغرب مثل وادي قويزة، ووادي بني مالك، ووادي مريغ، وهو أحد الوديان التي وفرت لجدة ظهيرا زراعيا عظيم الأهمية لما يتوافر فيه من أرض صالحة للزراعة وعيون ماء كثيرة.
وفي الشمال الشرقي من جدة تقع أراضي وادي خليص على بعد 75 كيلا في الطريق الى المدينة المنورة، وأرض الوادي خصبة وغنية بالماء، وبهذا الوادي الكثير من القرى اكبرها وأهمها قرية السوق أو قرية النزلة وهي نفسها نزلة المغاربة. ويبلغ طول وادي خليص نحو خمسة عشر كيلا، ويبلغ عرضه نحو تلك المسافة.
وقال عنه الجزيري: \"ومنزل خليص فضاء واسع كثير الأنس، وبه حصن على جبل، ومزروعات وخضر وبطيخ وبعض كروم، وأشجار ليمون، وبه الأغنام والحشيش لعلف الجمال\" وفي موضع آخر يوضح لنا كيف كان هذا الوادي أحد أهم أودية الظهير الزراعي لجدة عندما يقول: \"ومن البطيخ اللطيف منظرا، ويلذ طعمه كالشراب، ومن أنواع البقول والخضر مما يجد به القادم الى تلك البقعة غاية السرور والأنس بعد مشاق السفر، ويزول عن جسده ما كان به من الفتور والكلال والضرر، ويطيب له خبر تلك المحلة والمنزلة، بعد السماع والخبر، ولما مرت لنا به أوقات، وورد علينا فيها وبها نعم ومسرات، وفي صحبة أماجد الأمراء والأعيان، ذوي الفتوة والمكارم والاحسان، إذ الناس فيهم بقية من صبابة، تغمدهم الله برحمته، وأسكنتهم فسيح جناته، بفضله وطوله، ومنته وحوله..\".
ومن الأراضي الزراعية للأودية تأتي اراضي وادي عسفان، وهو المرحلة الثانية من مكة المكرمة، والتاسعة من المدينة المنورة على طريق القوافل القديم. كان اهلها في فجر الاسلام خزاعة، ثم تملكتها قبيلة حرب منذ القرن السادس الهجري تقريبا، الثاني عشر الميلادي. ويقول عنها ابن بطوطة: \"ثم رحلنا الى عسفان، وهي بسيط من الأرض بين جبال، وبها آبار ماء معين تنسب احداهما الى عثمان بن عفان رضي الله عنه.. وهناك بئر تنسب الى عليّ، رضي الله عنه، ويقال: إنه أحدثها. وبعسفان حصن عتيق وبرج مشيّد قد أوهنه الخراب، وبه من شجر المقل كثير، ثم رحلنا من عسفان ونزلنا بطن مر..\". بينما يقول عنها أوليا جلبي الرحالة التركي: \"وهي من الآبار النبوية المأثورة، وتكثر الآبار في هذه المنطقة\".
كما قال عنها الحميري: \"بلد كبير بين مكة والمدينة، بينها وبين مكة تسعة وأربعون ميلا، وبينها وبين البحر عشرة أميال، وفيها آبار عذبة، وبين عسفان وقديد أربعة وعشرون ميلا، وعسفان كثيرة الأهل خصيبة، ماؤها من الآبار..\"، بينما يذكر الجزيري: \"وعسفان قرية على الطريق الى مكة.. على نحو يومين من مكة سميت بهذا لعسف السيول فيها.. وبئر عسفان بها ماء عذب سائغ شرابه، يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم شرب منه، وأن قوافل الحجاج عادة ما ينزلونها ويتزودون منها بكل احتياجاتهم\". كما يقول عنها محمد صادق باشا: \"محطة عسفان أو بئر التفلة وهو محل متسع محاط بجبال به عشش وسوق يباع فيها اللحم والسمن والبلح والنارنج المسمى عندهم بالليم وهناك ثلاث آبار عذبة المياه لا سيما بئر التفلة فإن ماءها كما النيل ويقال إن ماءها كان مُرّاً فتفل فيه الرسول صلى الله عليه وسلم عند مروره هناك فحلا ـ أي زالت ملوحته ـ إلى وقتنا هذا..\".
كانت هذه بعض الأودية بما فيها من قرى كثيرة شكلت العمود الفقري للزراعة في الظهير الزراعي لجدة خلال هذه المدة، كذلك كان يحيط بجدة قرى صغيرة في الجنوب والشمال، وهذه القرى صارت اليوم ضمن أحياء جدة وهي النزلة اليمانية، ونزلة بني مالك، والرويس في جنوب جدة وشمالها الشرقي وشمالها. والتي شكلت في العصور الوسطى إحدى المناطق الزراعية ضمن الظهير الزراعي لجدة، كما شكلت احد مقومات الزراعة في هذا الظهير. مثلها مثل قرية حدة التي يقول عنها الحضراوي مؤرخ جدة المتوفى سنة 1327هـ في العصر العثماني في حديثه عن الظهير الزراعي لجدة ووجود الكثير من القرى فيه مثل: \"قرية حدة قريبة من شفير الوادي الكبير الذي يأتي أصله من مر الظهران، وفيه أثل وعشب كثير ومزارع إذا جاء السيل.. وحوله مزارع كبيرة هناك يجلب منها بطيخ كثير مشهور عندهم بالحورة وتسمى بحرة، ومنها الرغامة.. وهي مدينة كبيرة ممتدة مع ساحل البحر نحو ميلين… وكذلك قرى قديد التي تشكل عددا كبيرا من القرى، وتبعد عن مكة 125 كيلاً، كما أن بها عيواناً جارية، وحظها في عيون الماء يأتي في الدرجة الأولى، إذ لا تزال تجري فيها عشرون عينا ثجاجة، وهي لقبيلة زبيد من حرب. وتربتها من أخصب الترب، صالحة للزراعة، وتكثر بها أشجار النخيل، وهي أكثر خصبا ونخلا من أماكن أخرى. ومنها قرى الهدة الموازية لوادي مر الظهران من الشمال، وهي قرى خصبة، فيها بالإضافة الى العيون الآبار الزراعية غزيرة المياه، قريبة القعر، وبها الكثير من النخيل وأشجار الحمضيات والخضروات والموز والحناء.
توافر مياه الري في الظهير الزراعي لجدة:
سبقت الإشارة الى ان ما أورده جار الله بن فهد من أن وادي مر الظهران كان به ست وثلاثون قرية، هذه القرى قد رتبها ترتيبا أبجديا على النحو التالي: أرض حسان وسط وادي مر، أرض خالد والتي تعرف أيضاً بأرض شعيب، أرض فراس ويقال لها أيضاً قرية الشيخ ومشهورة كذلك بالشميسي، وقرى: أبو عروة، وأم العيال، والبحرين، وبجبر، والبريدان، والبرابر، البرقة، والتنضب، والجديدة، والجموم، والجميزة، والحادثة والحميمة، والخضراء، والخفج، وخيف بني شديد، والدمناء، والركاني، والروضة، والريان، والريمة، وسولة، وسروعة، والقصير، والكدايا، والمبارك، ونخلة الشامية ويقال لها المضيق الأعوج وبستان ابن عامر، والهرمزية، وحدة. ومن الواضح ان عين حداء أو حدة غزيرة المياه العذبة، وظل ماؤها من أهم مصادر المياه كذلك. بدليل ان البعثة الزراعية المائية الأمريكية التي استقدمها الملك عبدالعزيز ـ رحمه الله ـ في سنة 1361هـ 1942م اشارت في تقريرها بأنه توجد بها مياه كافية لتموين جدة، والعين يبلغ تدفقها 240 جالوناً أمريكياً في الدقيقة الواحدة وهي تبعد 45 كيلاً عن جدة.