في قلب مدينة فاس ، يتلألأ ذلك النبراس ، إنه جامع القرويين ، الذي بنته السيدة القرشية فاطمة الفهرية رحمها الله .
المرأة التي خلد التاريخ ذكرها ، ونقش الدهر أثرها ، وبقيت وستبقى شامةً في جبين الزمان ، وقدوة للمرأة المسلمة الصالحة الحكيمة ، وصورة مشرقة للمرأة في تونس والمغرب العربي وكل بلاد المسلمين .
ورثت أم البنين فاطمة الفهرية وأختها مريم مالاً جسيماً من أبيهما ، وبِراً بأبيهما وهبتا ذلك المال في الصدقات والأوقاف ، وسخرتاه فيما يكون أجره جاريا لهما ولأبيهما بعد مماتهما .
فسعت أم البنين لبناء جامع القرويين وتجديده ، وأنفقت في ذلك مالاً عظيماً ، واشترت ما حوله من الأرض ، وأوعزت للعمال ألا يُبنى فيه إلا من التراب والحجر والرمل الذي من الأرض التي اشترتها بحُر مالها ، حتى يكون ماله حلالاً خالصاً ، وأشرفت على العمل والتشييد بنفسها ، حتى اكتمل بناء المسجد كأحسن ما يكون في زخرفته الإسلامية ، وبهائه وفخامته واتساعه وجماله ، وظلت صائمة محتسبة طيلة تلك المدة ؛ إلى أن انتهت أعمال البناء ، فصلت في المسجد شكراً لله .
وأصبح هذا المسجد المبارك مشعل هداية للناس ، فيه تقام الصلوات ، وخطب الجمعة ، ويُدرَّس القرآن ، ويتعلم الصبيان ، وتقام حلقات العلوم الشرعية والفقهية واللغوية وغيرها من العلوم ، وقصده الناس ، وكتب الله له القبول والشهرة ، وخرج منه عشرات الآلاف ممن حفظوا كتاب الله في أروقته ، أو تعلموا فيه علما نافعا .
ومع مرور الأزمان كان يرمم ويجدد ، وتضم إليه أوقاف يحبسها بعض الناس له ، وصار منارة للمسلمين يقصده الناس من كل أرجاء الدنيا للتعلم فيه ومجالسة العلماء .
إن هذه المبادرة العظيمة من هذه المرأة الصالحة كانت كما قال ابن خلدون: (فكأنما نبهت عزائم الملوك من بعدها). فأقبل ملوك المغرب على توسعته حتى انتهى إلى ما انتهى إليه ، ولبركته وعظيم أثره ؛ تم بناء جامعة القرويين لتصبح أول جامعة في العالم .
وكل ذلك الفضل ، وتلك البركات ، تجري على صحائف فاطمة الفهرية رحمها الله ، حين أوقفت أموالها لبناء ذلك المسجد المبارك ودعم التعليم والقرآن. فهو أشهر وأبرز وأقدم وقف في بلاد المغرب كلها . وقد لعب مسجد القرويين دوراً مهماً في حفظ الحياة الدينية والعلمية في العالم الإسلامي .
وأما مريم أخت فاطمة الفهرية فهي مثل أختها أوقفت ما ورثته من أبيها وبنت مسجد الأندلسيين .
فيا لله أي نبتة صالحة تركها والدهما . فرحمه الله ، ورحم فاطمة وأختها مريم . وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم.
بقلم / منصور جبر
[email protected]