رؤية: محمد الرفيدي
وقد يكون هناك أشياء أخرى دارت بخَلَده غير ماذكرنا ، لكن لعل فيما ذكرنا فائدة .إذن يمكن القول : بأن هذا الاستهلال لنص غوائي / تقابلي ، يجمع بين شاب وشابّة ، وذكر وأنثى ، هو استهلال في محله – ولا شك – بل هو استهلال يعطي القارئ تصوراً لتلك المشاهد التي سيرسمها الشاعر بعد ذلك في هذا النص الشيء الذي يمكن أن يكون النفيعي قد أتقنه هنا ، وهو – بلا شك – ضمن أشياء كثيرة أتقنها في نصه هذا ، هو استخدام أدوات الحارة المكيّة بحرفنة ” ابن الشارع ” إن صحّت التسمية ، ولذلك ازدحم النص هنا بأدوات كثيرة لابن الحارة المكيّة ، مما يجعلنا نظن أن هذا النص هو في الأساس منقول عن لوحة تشكيلية ، ولنأخذ على سبيل المثال :شارع – اسكريم التوت – العلك ابو ريال – اربط الباب بـ حبال – عصايه – السعلي – قوله : ياعيااااال … كأداة مخاطب لمجموعة من الأطفال .
ويمكن أن نضيف – وهذه حقيقة – بل وميزة تفرّد بها النفيعي ” يرحمه الله ” ، وهو أنه تحدث بلسان كل طفل عاش فترة طفولته في الحارات المكية ، وهذا مالم يستطع غير محمد النفيعي إتقانه ، فكل التفاصيل التي ذكرها هي بالفعل كل التفاصيل التي مرت على من ترعرع في حواري مكة ” شرّفها الله ” ، وحينما أقول مكة. فهذا لا يعني أن من ترعرع في غيرها من مدن الخليج العربي لم يمر بما مر به النفيعي ،لا،ولكن الذي جرّب مثل تجربة النفيعي ، وكان أحد من عاشوا هذه الطفولة يدرك أبعاد مارمى إليه .وفي النص من الجماليات مايعجز القلم عن وصفه ، فهو بقدر مايصور الحارة المكية بكل تفاصيلها،بقدر ماينزع بالفعل إلى نقل الحياة الطفولية أيضا لابن تلك الحارة ، بكل شعوره ومشاعره ، والقه وخوفه ، وشغبه وهدوئه ، كل هذه التفاصيل موجودة وبقوة في هذا النص ، كذلك الرمز الاسطوري الذي توارثه ابناء الحارات المكية جيلا بعد جيل ، وهو ” السعلي ” او ” السعلية” تلك التي كانت مصدر قلق لكثير من الاطفال ، خاصة الذين هم من اصول بدوية ، وهنا يؤكد النفيعي على هذا المعنى في قوله :
ياما عن السعلي تخبّت ورايه
لاخوّفوها فيه .. ثم شافت اظلال
هذا إذا ما أضفنا كذلك تلك السخرية المحملة بكثير من الدعابة حول طريقة التفكير القرائي لدى ابن الحارة المكية ، وكيف يفرق بين الاحرف المتشابهة ، وهو مالم يطرقه اصحاب الفكرة الاصيلة في كتابة مثل هذه النصوص ؛ كعلي القحطاني مثلاً ، وهذه ميزة تحسب للشاعر هنا ، وهي الاضافة الحقيقية لما يمكن ان يشكل نصا مختلفا عن النص الاصلي ، ومنه قوله :
وانا لك الله من مواري غبايه
ما ادري ابو النقطه هو الذال او الدال
ولم يتوقف النص عند تصوير تلك القصة البريئة لعاشقين طفلين ، تجمعهما أدوات هي إلى البساطة أقرب منها إلى أي شيء آخر،لا،بل صوّر لنا أيضاً ، وهذا معنى جميل جداً ، قد يكون سعى إليه النفيعي بطريقة متعمدة ، وقد لا ، لكن الهام في الأمر أنه تطرق إليه ، ألا وهو طريقة التربية في تلك الفترة ، وهي الفترة التي كان يستخدم فيها الأب(العصا)كأداة وحيدة للتربية..
ياما على ظهري كسر من عصايه
يقول لي خلك وانا بوك رجاااال
على العكس من الوعي الذي كان يتملك الأم إذ ذاك ، وقد لا يكون وعياً ، بقدر ماهو رحمة فطرية ، فالأم على مر التأريخ التربوي ، لم تكن إلا مصدر حنان ورحمة ، أكثر من الأب – بطبيعة الحال -.
وامي تقول ادع لولدك الهدايه
خوفي يصيبه كثرة الضرب بهبال
بقي أن نتحدث عما يمكن أن يكون الشاعر قد تجنبه في نصه هذا ، لكنه لم يوفق في ذلك ، وله “يرحمه الله” كل العذر في هذا ، فهو صاحب الكلمة الاولى والاخيرة في النص :قوله في عجز البيت الاول:(وانا بعد).بعد، هنا لم تضف معنى للبيت غير الثقل،وكان يمكن ان يستعيض عنها ببعض التقديم او التأخير،ومن ذلك – مثلاً – :وانا قبل لا البس لها شماغ وعقال,حيث يمكن الاستفادة حتى من مفردة (لها)هنا،ولكن للشاعر عذره – كما اسلفنا -.كذلك ، التكرار في قوله :وكنّا انتقاسم .. مامعاها = معايه وفي بيت آخر :تقول : خلك – يامحمد – معايه وقد يكون للشاعر هنا العذر في أن ( معايه ) في البيت الأول بمعنى:الملكية ، وفي البيت الثاني بمعنى:المجاورة .وختاماً ، فلو أردنا أن نتحدث عن النفيعي ونصه هذا ، فلن ينتهي بنا الكلام مطلقاً،رحم الله محمد ، فقد كان بارعاً حتى وهو طفل.