رؤية: عواض شاهر العصيمي
تتناوب على القصائد في شكل عام حالتان من الحضور والغياب، حالة الإسفار وحالة الإعتام، القسم الأول قليل مقارنة بالقسم الثاني الكثير، وهذا الحضور الإبداعي القائم على الجدة والاختلاف يتولى تشكيله شعراء تنبهوا أفضل من سواهم إلى مطالع الشعر المتأصلة في مداراته العصية على الرصد والمراقبة. الندرة سمة رئيسة في حضور الشعر، إن جاز أن نصفه بذلك، وللشعراء في هذا المجال الحيوي مضارب شتى، الجميع يصعد إلى مداراته لكن الوصول يختلف من شاعر إلى شاعر.
أتحدث هنا عن الشعراء لأضعهم في مجال مختلف اختلافاَ كاملاً عن النظامين ومتكلفي التمثيل الشعري ومقلدي المبدعين المحلقين في فضاء الشعر. كيف نستطيع الحكم لشاعر من الشعراء بأنه من كتاب الشعر/الندرة، أو من رواد حالة الإسفار المنذورة للقلة أبداً؟.. يمكن أن نستقرئ التجربة ككل لنصل إلى رأي نقدي يضعه في هذا المدار. غير أنه يمكن أن نتلمس شيئاً من تميزه وبعضاً من موهبته في قصيدة واحدة، أما الحكم النقدي الأقرب إلى القطع بأنه شاعر عظيم فسيظل بعيداً عن التحقق ما دام المثال يتكون من قصيدة واحدة أو قصيدتين فقط. أظن بأن هذه القصيدة التي نحن بصدد الحديث عنها، قصيدة الشاعر أحمد الويمني، تضع ذراعيها بمرونة لافتة على تلك الرجفة التي يتعذر أن توجد في قصيدة عادية، وبالتالي يمكن أن نتلمس من خلالها موهبة الشاعر الويمني ونمسك بشيء من اليقين بأنه مبدع تنبئ قصيدته عن إمكانات جميلة في كتابة شعر يبحث عنه المتذوق الجيد ويغار منه الشاعر الحاذق. القصيدة تنأى في سردها الشعري عن لغة المراثي الفائضة بالفقد والدموع وتقترب بصورة واضحة من وضع الشيء الآفل في مكانة لائقة بالقيمة والمنزلة. هذا على اعتبار أن الماضي كأصداف البحر، منها ما هو خاو ومنها ما ينطوي على حياة. غير أن الماضي في هذه القصيدة ينغلق على ودائع غالية في تقدير الشاعر يجب أن تستعاد بطريقة ملائمة تكافئ قيمتها في نفسه، وليس أقدر من قصيدة على هذه الاستعادة. ولئن كان البيت الأول يشير إلى الحاضر بأكثر من إشارة ( 1-هنا/2- رغم الإضاءة/ 3- غرفتي تبدو بلا ترتيب/4- تذاكر رحلتي/5- فاتورتي/ 6- سجادة الطاعة) فإنما ليؤكد وعيه بلحظته الراهنة منطلقاً منها على طريقة “الفلاش باك” إلى ما بات في حكم الآفل في حسبان الزمن إنما لم يزل حاضراً ماثلاً في قوة تأثيره وسطوته على الذات في اللحظة عينها. وبذلك يتهاوى فعل الرثاء المعبر عن الخسارة ويحل بدلاً منه طقس استرجاعي في قالب إبداعي احتفائي هو القصيدة، وهي قصيدة تفعل فعل المحارة في البحر إذ تنغلق على لؤلؤة ناضجة ليست هنا سوى ذات الشاعر. ومن هذه الصورة يتشكل الماضي متصلاً بالحاضر في ذات اللحظة، نضوج اللؤلؤة الذي يدل على استواء لا بد منه للدلالة على نفاسة الدرة/ذات الشاعر، واكتمال لا غنى عنه يتمثل في التجربة على صورة محارة هي القصيدة. والاسترجاع يحدث عبر الإشارة إلى محسوس (قائمة متنوعة من الموجودات ذات العلاقة تذكرها الأبيات 2، 3، 4، ) لتكون الغرفة ساحة مهيأة لاستطالة القصيدة في ما هو أكثر من معنى، فالغرفة في حد ذاتها يتماهى شكلها مع القصيدة مراوحة ما بين الذاتي والعام، والفردي والكوني: