حيدر إدريس عبد الحميد
معاناة أهل السودان لا تخطئها العين وسر تماسكهم عمق إيمانهم ومعرفتهم التامة بما يحاك ضدهم وخبرتهم الطويلة في معترك السياسة ومواجهة التحديات وقناعتهم أن رفع السلاح لن يحقق المطالب وقدرتهم على تجاوز صراعاتهم وخلافاتهم بما عرف عنهم من مواقف في مواطن الشدة وبما جبلوا عليه من تسامح وميل إلى التصالح إضافة إلى مساندة الأشقاء والأصدقاء لهم.
وقد كان فصل جنوب السودان عن شماله رغم قساوته وتعارضه مع قيم ومبادئ الاتحاد الأفريقي بالحفاظ على الحدود الموروثة من الاستعمار كان مقدمة لتحقيق جملة من الأهداف الخبيثة في هذا البلد الكبير الزاخر بإمكانات مادية وبشرية هائلة.
وقد مثلت اتفاقية نيفاشا منعطفاً خطيراً في تاريخ السودان الحديث في تحول غير متوقع لأماني ما كان يسمى بالحركة الشعبية لتحرير السودان وجيشها الشعبي الذي كان يقاتل تحت راية يسارية ولأهداف ليس من بينها الانفصال.
والواقع أن الحرب بين الشمال والجنوب ظلت مستعرة على مدى أكثر من عقدين من الزمان وتخللتها اتفاقيات سلام ما لبثت أن انهارت كما تغيرت القيادات والمرامي حتى عهد الحركة الشعبية وزعيمها الدكتور جون قرنق الذي لقي مصرعه في ظروف غامضة وهو في طريقه من يوغندا إلى الجنوب على متن مروحية غير سودانية.
وعلى مدى سنوات الحرب فشلت كل محاولات القوى الخارجية لوسمها بالإبادة الاثنية أو الحرب الدينية وغير ذلك من أساليب الفتن الماحقة..ولكن وفي منتجع نيفاشا الكيني استطاعت هذه القوى أن تغير مسار الحركة الشعبية ليبرز من ضمن الأجندة حق تقرير المصير فيما ظنت الخرطوم أن مهلة الست سنوات قبل اجراء الاستفتاء كافية لجعل الوحدة جاذبة ولم يكن في بالها مقولة أهلها عن عَلوق الشَد (أي أن تعلف دابتك وأنت على وشك ركوبها).
انفصل الجنوب ولكن القوى المعادية للسودان الأم بأهدافها الخبيثة ما زالت تعبث بأمنه واستقراره فيما لم يتم تقرير مصير منطقة أبيي رغم أنها ضمن حدود الشمال لتصبح بؤرة للصراع والتدخلات الخارجية وخلقت مشكلة أخرى في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق وهما من ولايات الشمال أصلاً..أما ما أعلن عن رفع الحصار الجائر عن السودان وإعفاء ديونه ودعم الدولتين فقد ذهب مع الريح.
واللافت للنظر أن انفصال الجنوب وحصوله على معظم موارد النفط لم يؤثر بالصورة التي روجت لها العديد من الدوائر وظل السودان أكثر تماسكاً وعصياً على التفتيت بإرادة شعبه القوية وجنوحه للسلم وتاريخه المشرف رغم ما يحدث في ولايات دارفور من تفلتات أمنية وحروب قبلية وحركات ما زالت تشهر السلاح في وجه الدولة وما يروج له الأعداء من حين إلى آخر لاضعافه ورسم صورة قاتمة عنه ومحاولاتهم المستميتة لخنقه بعد فشل كل المؤامرات لإثارة الاضطرابات فيه وبالتالي تمزيقه.