جدة ــ البلاد
ثمة ارتباط وثيق بين المكانة العالمية للدولة وبين مصادر القوة التي تميزها عن غيرها، فكلما زادت قوة الدولة، صعدت أسهمها العالمية وأخذت قصب السبق في صياغة المبادرات العالمية، فجميع الشواهد هنا تصعد بالمملكة العربية السعودية لريادة دول العالم اجمع في هذا المضمار، فالمملكة بشهادة الجميع سجلت اسمها كدولة راعية للسلام وداعمة له، ليس في منطقة الشرق الأوسط والشرق الافريقي فحسب، وإنما في كل بقعة من العالم.
وتشهد مضابط التاريخ بجهود مضنية وكبيرة بذلتها المملكة في نشر ثقافة السلام وتحقيق الوئام بين الدول أو الجهات المتناحرة.
وفي الكثير من المناسبات، تجدد المملكة إدراكها التام لأهمية نشر ثقافة السلام محليا ودوليا، وتعزيز آليات الحوار بين أتباع الأديان والثقافات المختلفة حول العالم، مؤكدة أن تعزيز مفهوم السلام على المستوى الوطني، يتحقق من خلال مجالات التنمية وبناء الإنسان والاهتمام به، أما على المستوى الدولي، فيتحقق من خلال تشجيعِ علاقات الاحترام المتبادل، وتسوية مختلف الصراعات بالوسائل السلمية، وتعزيز الحوار والتضامن بين مختلف الحضارات والشعوب والثقافات.
نجاح دبلوماسي :
ويمثل النجاح المتنامي للدبلوماسية السعودية أحد النتائج المهمة لسياسة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود “حفظه الله” ، والتي توجت مؤخراً بتوقيع اتفاق مصالحة تاريخية بين قادة اثيوبيا وارتيريا وجيبوتي، انهت صراعا دام قرابة العشرين عاما.
ثم ان اتفاق جدة المنتهي الاحد الماضي، ليس الاول الذي تستضيفه المملكة ولن يكون الاخير، فقد عقدت الكثير من اجتماعات السلام بين الجهات المتناحرة، فسبق للمملكة أن جمعت الفرقاء في دولة لبنان في عام 1989، في اتفاق سلام تاريخي، أطلق عليه اتفاق الطائف، وكان دور المملكة في هذا الاتفاق مركزيا ومستمرا، ذلك لأن الجهود السعودية لوقف القتال في لبنان ومحاولاتها تحقيق الوفاق الوطني وتسوية الصراع اللبناني، لم تكن مؤقتة أو مرحلية، بل رافقت الحرب اللبنانية منذ بدايتها في إبريل 1975، واستمرت طوال الحرب اللبنانية حتى حالفها النجاح في الطائف.
هذا بخلاف ان المملكة دعمت من قبل اتفاق سلام، تم توقيعه بين حركتي فتح وحماس الفلسطينيتين في عام 2007، في مدينة مكة المكرمة، وجاء الاتفاق، بعد مداولات لمدة يومين، حيث جرى التوافق على وقف أعمال الاقتتال الداخلي، وتشكيل حكومة وحدة وطنية. وتم الاتفاق برعاية خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز ـ يرحمه الله ـ وشارك في المداولات التي سبقت الاتفاق العديد من الشخصيات الفلسطينية من الطرفين (فتح وحماس)، كان من بينهم الرئيس الفلسطيني محمود عباس (فتح)، والنائب محمد دحلان (فتح) ورئيس الوزراء الفلسطيني السابق إسماعيل هنية (حماس) وخالد مشعل الرئيس السابق للمكتب السياسي لحركة حماس.
لم تقتصر الدور السعودي فى دعم عمليات السلام، على عقد اللقاءات لتوقيع اتفاقات سلام بين الجهات المتناحرة، وإنما شملت أيضًا استخدام القوة، لنصرة الحق، وتعزيز الشرعية ونجدة الملهوف، وهو ما يفضي إلى تعزيز ورقة السلام، ففي الأمس البعيد، خاض الجيش السعودي، بجانب الجيوش العربية والغربية، حربًا ضروسًا، من أجل إعادة الحق المسلوب إلى دولة الكويت الشقيقة، التي احتلها الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين في عام 1991، وقبل انطلاق الحرب، وجهت حكومة المملكة عشرات النداءات إلى صدام حسين، للتراجع عن احتلاله دولة عربية دون وجه حق، إلا أنه أصر على ذلك، فما كان من الجيوش العربية والغربية إلا أن بادرت ببدء الحرب، لنصرة الحق، ودعم السلام في المنطقة، بعد إرغام صدام على مغادرة الكويت.
وفي عام 2011، تكرر المشهد ثانية في مملكة البحرين التي شهدت أحداث شغب بسبب تدخلات إيران في هذا البلد المسالم، فسارعت المملكة بإرسال قوات درع الجزيرة إلى المنامة، بناء على طلب حكومة مملكة البحرين فأجهضت بذلك المخطط الإيراني في إثارة الاضطرابات داخل المنامة لإسقاط الحكم هناك.
واليوم يعيد التاريخ نفسه في دولة اليمن، التي لجأت إلى المملكة،
وطلبت منها العون والمساعدة في مواجهة الانقلاب الحوثي المدعوم من إيران، على الشرعية هناك، فسارعت المملكة بتأسيس تحالف عربي إسلامي، للدفاع عن الشعب اليمني، وصد العدوان الحوثي، وقطع اليد التي تدعمه بالسلاح والمال، وعلى الرغم من أن الحرب في اليمن تتواصل للعام الثالث على التوالي، إلا أن المملكة ترفض وقفها، حتى تعود الحكومة الشرعية إلى حكومة البلاد، ويتراجع الحوثيون عن انقلابهم.
جهد ممتد :
لم يأت نجاح المملكة في حل المشاكل العالقة بمنطقة القرن الإفريقي مصادفة؛ إذ إنه جاء نتيجة جهد ممتد بدأته المملكة منذ سنوات بعيدة، انطلاقًا من قناعتها بضرورة إرساء الأمن والاستقرار كشرطين للتنمية والتقدم.
ويعطي دور السعودية في دعم الصومال، مثالًا على دأب المملكة وحرصها على مساعدة الأشقاء، بما يمكنهم من مواجهة التحديات الأمنية والاجتماعية التي فرضت عليهم، جراء التحولات الدولية التي شهدها العالم في تسعينيات القرن الماضي. وخلال السنوات الـ20 الماضية، قدمت المملكة للصوماليين دعما اقتصاديا وسياسًا، فضلًا عن مساعيها الحثيثة لإنهاء الحرب الأهلية.
وشاركت المملكة بقوة في جميع مؤتمرات المصالحة الصومالية التي عقدت في كل من جيبوتي، وأديس أبابا، ونيروبي، كما استضافت في عام 2007 قيادات من الحكومة الصومالية، ووعدت بتقديم ملايين الدولارات لإعادة بناء المؤسسات الوطنية وإعمار البلاد، كما طرحت مبادرة للمصالحة بين حكومة الرئيس الراحل عبدالله يوسف والمحاكم الإسلامية.
ووقّع فرقاء الأزمة الصومالية على نتائج مؤتمر المصالحة بجدة، الذي رعاه الملك عبدالله بن عبد العزيز -رحمه الله- في عام 2007، ما أسهم في طي صفحة دامية بين الأطراف المتنازعة.
وعلى الصعيد الإنساني، تقدمت المملكة الجهود الدولية لمساعدة منكوبي المجاعات التي اجتاحت الصومال في تسعينيات القرن الماضي، كما أنشأت منظمات وهيئات لدعم ومساندة اللاجئين الصوماليين في نيروبي ومقديشو وغيرها من المدن؛ تنفيذًا لبرامج إغاثية مختلفة شملت المجالات الصحية والتعليمية والتنموية.
الدخول على خط الوساطة :
وقبل دخول الوساطة المملكة على خط الأزمات القائمة بالمنطقة، ظل القرن الإفريقي، ساحة تنافس دولي، نظرًا للأهمية الكبيرة التي استمدها من موقعه الجغرافي؛ حيث تطل بعض دوله على المحيط الهندي، كما يتحكم بعضها بالممرات الاقتصادية والعالمية كالبوابة الجنوبية لمضيق باب المندب.
وبحسب الباحث بمركز مقديشو للدراسات عمر حسن، فإن الاهتمام السعودي بالوساطة بين دول القرن الإفريقي شكل تحولا استراتيجيا في توازنات المنطقة، بعدما قامت المملكة بتعزيز علاقاتها بهذه الدول كافة، وبدأت في تحرك جاد ومكثف لإنهاء التوترات القائمة بينها، خلافًا لما تفعله الدول الأخرى، التي تعمل في الغالب على تأجيج الصراعات وإشعال الحروب.
يؤكد ذلك أن المملكة تحولت، خلال فترة وجيزة، إلى مركز للتفاعلات الإيجابية الخاصة بمستقبل القرن الإفريقي، فقد استقبل خادم الحرمين الشريفين قادة هذه الدول في أكثر من مناسبة، وأجرى معهم مباحثات مطولة، بينما نشطت الخارجية السعودية في تعزيز مساحات التفاهم المتاحة أمام تلك الدول، الأمر الذي أثمر -في نهاية المطاف- تحولات كبرى، قطعت الطريق على المتربحين من استمرار الصراعات والحروب.
ويعلق الكاتب الصومالي محمود نور على دور السعودية في منطقة القرن الإفريقي قائلا: تحتل مكانة خاصة ومميزة في قلوب الصوماليين، ليس قط لأن المملكة تحتضن الحرمين الشريفين، وإنما أيضًا بسبب العلاقات التاريخية بين البلدين والشعبين والدور الذي لعبته المملكة شعبا وحكومة في مساعدة الصوماليين، ووقوفها إلى جانبهم في محطات حَرِجَةٍ مرَ بها الصوماليون عز خلالها الصديق وقل فيها الناصر، بدءًا من أيام الاستقلال؛ حيث كانت الصومال بحاجة ماسّة إلى من يدعمها وينقذها من الارتماء إلى أحضان مستعمريها، ومرورًا بحرب 77 مع إثيوبيا، وانتهاء إلى سنوات الحرب والمجاعة”.
ويضيف الكاتب نفسه، عبر مقال نشره مركز مقديشو للدراسات: لم تكن السعودية يوما تتردد في الاستجابة لنداءات الاستغاثة من إخوانها وأشقائها في الصومال، وكانت مشاركتها لم تكن تقتصر على المستوى الشعبي، وإنما كانت بتوجيهات من القيادات العليا للمملكة؛ إيمانًا منهم بضرورة وفاء حق المسلم على أخيه المسلم، ونظرًا لأهمية الصومال وموقعها الاستراتيجي، وباعتبارها جزءًا لا يتجزأ من الأمن القومي السعودي”.
إدارة الازمة بطريقة الكبار:
أكد دبلوماسيون ومحللون سياسيون، متخصصون في الشؤون الأفريقية، أن المملكة أدارت المصالحة بين إثيوبيا وإريتريا وجيبوتي على طريقة الكبار، في ظل صعوبات كان أبرزها، محاولات ثاني الإرهاب، إيران وقطر، إفساد المصالحة.
وأوضح متابعون وسياسيون، في تصريحات منفصلة أن الصلح بين البلدين، ضربة قاصمة من المملكة للمشاريع الفوضوية بالمنطقة، مشيرين إلى أن هذا السلام سيمهد شرق أفريقيا ومنطقة القرن الأفريقي، لإجهاض مخططات طهران والدوحة، لتهديد الأمن القومي العربي وتهديد التجارة العالمية، والعمل على زعزعة الاستقرار في منطقة الخليج.
وأكد المحلل السياسي خالد الزعتر أن اتفاق السلام يؤكد التكامل الحاصل في العمل الدبلوماسي السعودي ويعزز مكانة المملكة القارة.
وأوضح “الزعتر” أن نجاح المصالحة يعتبر ضربة قاصمة للمشاريع الفوضوية التي ترعاها بعض الدول ويأتي ليغلق الباب أمام الدول التي تحاول استثمار هذا الصراع لمصلحتها وإيجاد موطئ قدم لها، ومن بينها إيران التي بدا واضحا أنها بدأت تفقد وجودها في القارة الأفريقية والتي كانت تنظر لهذا القارة بأنها الضامن الاستراتيجي لمشروعها التوسعي في تطويق دول الخليج من الضفة الأخرى للبحر المتوسط، وتأمين خطوط لإمداد الأذرع الإيرانية من الحوثيين، وحزب الله بالسلاح والمسلحين.
بدوره قال رئيس المركز المصري للدراسات والأبحاث الإستراتيجيه، اللواء هاني غنيم، إن المملكة قوضت بهذه المصالحة أدوار إيران وقطر التخريبية في المنطقة بعد أن خططا للتوسع داخل أفريقيا لضرب المصالح العربية.
وأشار “غنيم” أن هذا الاتفاق يعتبر ضربة قوية لمواجهة الإرهاب الذي تعمل عليه الدوحة وإيران في المنطقة.
فيما قال الأمين العام المساعد السابق لمنظمة الوحدة الإفريقية، السفير أحمد حجاج، إن منطقة القرن الأفريقي رهان محوري للسلام في القارة الأفريقية والمنطقة العربية والخليج، وبالطبع الاستقرار يؤثر على جزء كبير من سلامة التجارة العالمية، وهي منطقة مستهدفه من دول تعمل على تخريب الخليج وشمال أفريقيا.
وأكد “حجاج”، أن السعودية استطاعت تحييد دور الدول التي كانت تضغط على القيادات السياسية في إريتريا وإثيوبيا لضرب السلام.