الرياض- واس
طرح صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز رئيس الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني أمس الأول ورقة بعنوان (بدأ الإسلام في جزيرة العرب منذ خلق الله الانسان)، شاركه فيها كل من معالي الدكتور فهد السماري المستشار بالديوان الملكي، أمين عام دارة الملك عبدالعزيز المكلف، والدكتور علي الغبان نائب رئيس الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني المشرف العام على برنامج خادم الحرمين الشريفين للعناية بالتراث الحضاري، وأدارها معالي الدكتور خليل البراهيم مدير جامعة حائل، وذلك ضمن جلسات ملتقى آثار المملكة الأول المقام حالياً في مركز الملك عبدالعزيز التاريخي بالرياض.
وأكد سموه في هذه الورقة أن من المهم في هذا العصر الذي يجد فيه المسلمون أنفسهم في مواجهة مع الحضارات الأخرى أن نعيد التفكير فيمن نحن وما هو دورنا في الحراك الإنساني المستقبلي، منطلقين من قراءة جديدة في تاريخ الإسلام الذي بدأ -والله أعلم- منذ خلق البشرية، وأن كل ما حدث منذ ذلك الوقت الذي لا يعلمه إلا الله، كان تسلسلاً يؤدي إلى بزوغ شمس الهداية والخير من مكة المكرمة في قلب الجزيرة العربية وعلى يدٍ عربيةٍ من خيرة أهلها في فترة زمنية مهمة كانت فيها مكة المكرمة محوراً إستراتيجياً حضارياً وسياسياً واقتصادياً وثقافياً وملتقى للقوافل التي جاءت للحج والتجارة، مما شكل كياناً ذا قوة سياسية متنامية، وساعد على انتقال رسالة الإسلام والقرآن الكريم بلغته العربية الراقية التي تطورت عبر آلاف السنين حتى نزل بها القرآن الكريم، إلى أرجاء المعمورة، مما يؤكد أن الإسلام العظيم لم ينشأ من أرض مفرغة من الحضارات أو المعرفة أو الأخلاق أو القيم العربية الأصيلة.
وأشار سموه إلى أن الإسلام الذي جاء لكي يؤكد التوحيد وهو دين البشرية وخاتم الأديان، وأن الله سبحانه اختار أرض الجزيرة العربية وشعبها لحمل هذه الرسالة السامية منذ خلق الله البشرية، وأن التعاقب الحضاري والبشري والاقتصادي الكثيف على هذه الأرض المباركة عبر التاريخ يدل على حراك مستمر لتهيئة المكان والإنسان لحمل هذه الرسالة السامية للعالم.
وأوضح سموه أنه بدأ في التفكير لإعداد هذه الورقة منذ أربع سنوات، مبيناً أنه بدأ الاهتمام بالآثار والتراث منذ صغره وكنتيجة لمرافقة والده الملك سلمان بن عبدالعزيز – حفظه الله – للمواقع التراثية والأثرية، فقد كان الملك سلمان شغوفاً بالتراث كثير الاطلاع على كتب التاريخ وزيارة المواقع التاريخية، وهذا ما ورثه الأمير سلطان عن والده, مضيفاً سموه : “كنت أتساءل هل دورنا فقط في التنقيب عن الآثار، وأن نخرج قطعاً أثرية ونضعها في المتاحف فقط، أم يفترض أن يكون أكبر من ذلك؟ وما هو الرابط بين كل هذا التاريخ وهذا التراكم الحضاري وما نحن عليه اليوم؟”.
ولفت سموه النظر إلى أنه طرح ورقته التي عرضها في هذه الجلسة، على مجموعة من العلماء الأجلاء ومجموعة من خبراء الآثار، وأنه يطرحها في هذا الملتقى للاطلاع من المهتمين والدراسة والتمحيص والنقد، مؤكداً أنها تحوي مواضيع مهمة، وهي ورقة تربط قصة نشوء الإسلام بخلق البشرية، وتهيئة الوقت والمكان بما حدث قبل الإسلام لبزوغ شمس الهداية والخير من مكة المكرمة.
وقال سموه في هذه الورقة: (في محاضرة ألقيتها في مركز أكسفورد للثقافات الإسلامية في عام 1431هـ و1يونيو 2010م وأيضا محاضرة في عام 2014م طرحت فكرة مفادها أن الإسلام هو جوهره التوحيد الخالص لله تعالى هو دين الفطرة الذي أختاره الله سبحانه وتعالى للبشرية وخلقها وأن اختيار الجزيرة العربية مهد للإسلام والرسالة الخاتمة التي نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم ما هي إلا إمتداد لذلك التدبير الإلهي، وأن مسار الحضارة في الجزيرة العربية مرتبط بهذا الموضوع الأهم في تاريخها.
ولذا فإن الإسلام لم ينزل في أرض فارغة من الحضارات، وأن كل ما وقع على أرض الجزيرة العربية من أحداث وتقاطعات حضارية وإنسانية كانت بمثابة مقدمات وبشائر هيئت إلى ظهور الإسلام من هذه الأرض المباركة؛ لذلك فإن العناية بآثار حضارات الإنسانية على أرض الجزيرة العربية هي في نظري من باب العناية بتاريخ الدين الإسلامي العظيم في مكان قدر الله أن يكون مهيئاً من خلال مراحل التاريخ وتعاقب الاحتضان لانطلاقة أعظم دين للبشرية جمعا في لحظة تاريخية مقدرة منذ الأزل والله أعلم.
وقد دفعني ذلك الطرح إلى استقراء تاريخ الجزيرة العربية وعلاقته بدعوة التوحيد من خلال ما هو متاح حتى الآن من معلومات توصل إليها علم الآثار وبعد تفكير وتأمل وتداول الآراء حيال هذا الموضوع المهم مع نخبة من علماء الشريعة وعلماء الآثار والتاريخ الأفاضل الذين أثروا هذا الموضوع بأفكارهم النيرة وملاحظاتهم حتى جاءت هذه الورقة, ويقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز “إن الدين عند الله الإسلام”، وآدم عليه السلام هو أبو البشر والمسلمين، إذ قال الله تعالى ) إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين), ويرد في بعض المصادر الإسلامية أن آدم عليه السلام عندما بعثه الله إلى الأرض اجتمع بزوجته حواء قرب مكة، وعلى الرغم مما ذهب إليه كثير من أهل العلم أن اجتماع آدم وحواء قرب مكة رواية وردت في الإسرائيليات، وهناك طبعا نقاش حول الإسرائيليات، فإن هذه الرواية تدل على قدم تلك الأماكن المقدسة وأنها شهدت بواكير كيانات الأمة الواحدة، ونستشهد بقوله سبحانه وتعالى “إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين”.
ويذكر بعض المفسرين أن إبراهيم عليه السلام عندما أمره الله بالتوجه إلى مكة في القرن الثامن عشر قبل الميلاد قام بإعادة بناء الكعبة وأن قواعدها كانت مدفونة في ربطة صغيرة في وسط الوادي وأن بناءها كان في زمن سابق لإبراهيم عليه السلام ويستدلون بذلك في قوله تعالى “وإبراهيم إذ يرفع القواعد من البيت” أي أن قواعد البيت كانت أساسات وكانت موجودة من قبل وهو أول من رفعها على الأساس الذي بنيت عليه الكعبة في زمانه عليه السلام, لقد أراد الله سبحانه وتعالى أن يكون الإسلام الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم أخر الأديان وخاتمها قال تعالى (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ” ولكونه خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم فإن الدين الذي جاء به هو دين شامل للعموم البشرية وعلى مختلف الأزمان وهذه الحقيقة تدعونا للإجابة على هذين السؤلين، لماذا اختار الله سبحانه وتعالى نزول الإسلام في مكة المكرمة في جزيرة العرب؟ ولماذا وضع الله سبحانه وتعالى أول بيت للعبادة في مكة المكرمة في قلب جزيرة العرب أيضا؟ وبين الحدثين أصول وتطاول عمر الإنسان، ذلك ليس مجرد مصادفة فإن الله سبحانه وتعالى يقول “وكل شيء عنده بمقدار”؛ ولعل الله سبحانه وتعالى أراد رسالة الإسلام تكتمل حيث بدأت والله سبحانه وتعالى اعلم.
وأشارت الدراسات الأثرية وعصور ما قبل التاريخ في الجزيرة العربية أنها انطلقت متأخرة بلاشك مقارنة بما وجد من خلال الأبحاث الأثرية في شرق أفريقيا ومناطق أخرى من العالم وهي في المملكة العربية السعودية حديثة نسبياً وعلى الرغم من ذلك فإن نتائج الأبحاث والمسوحات الأثرية التي قامت ويقوم بها قطاع الآثار والمتاحف في الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني بالتعاون مع الجامعات السعودية بالتعاون مع خبراء محليين ودوليين تشير إلى وجود الاستيطان البشري في مواقع عدة في المملكة يعود تاريخ بعضها لفترة العصر الحجري القديم، وهناك مواقع عدة في مكة المكرمة في فترة العصر الحجري القديم والعصر الحجري الحديث للفترات المتعددة تغطي الفترة الزمنية الممتدة منذ 350 ألف سنة قبل الوقت الحاضر نزولاً إلى 7000 آلاف سنة قبل زمننا هذا.
وعلى أية حال فإن الجزيرة العربية بجميع مناطقها شمالاً جنوباً شرقاً غرباً ووسطاً لم تكن يوماً من الأيام خاوية من الحياة أو خالية من السكان؛ بل إنها أحد أقدم مناطق الاستيطان البشري في العالم القديم وذلك بشهادة الأدلة الأثرية المستكشفة والموثقة علمياً حتى الآن, مما يؤكد أن علم الآثار علم متجدد يكتشف من مكوناته ولذلك نلاحظ في الآونة الأخيرة أن علماء الآثار المختصين في دراسات علم الإنسان في جميع أنحاء العالم يركزون في أبحاثهم على الجزيرة العربية.
وقاد هذا التوجه علماء آثار مشهورين في أوروبا وأمريكا وعلماء من المملكة العربية السعودية ودول الخليج والدول العربية الأخرى إلى دراسة معابر الهجرات الإنسانية الأولى للإنسان القديم عبر الجزيرة العربية قبل انتشاره في بقية أنحاء العالم، والعثور على أدلة أثرية تؤكد هذه الحركة المبكرة في تاريخ الإنسان في أرض الجزيرة العربية السعودية في المملكة العربية السعودية بالتحديد, وعدد من دول الخليج العربي واليمن أثر كبير في تحويل قضية عبور الإنسان من فرضية إلى حقيقة علمية ثابتة.
ومن جانب آخر فإن البعثات الأثرية المشتركة الدولية العاملة مع الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني ويزيد عددها الآن عن 34 فريقاً في المملكة وبالتعاون مع عدد من المؤسسات العلمية والبحثية السعودية منها شركة أرامكو, وهيئة المساحة الجيولوجية, والجامعات السعودية, ومدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية, في إطار مشروع الجزيرة العربية الخضراء مع جامعة أكسفورد المرموقة أثبتت بالأدلة الأثرية والبنتولوجيا أن الجزيرة العربية كانت مروجاً وأنهاراً وأنها شهدت أكثر من عشرة آلاف بحيرة جافة تم توثيقها بمنطقة الربع الخالي وشمال المملكة حتى الآن، وهناك الآلاف الأخرى، وأنها شهدت فترات عدة من التصحر والمناخ الرطب وأنها كانت غنية بالأنهار والبحيرات قبل التصحر الأخير الذي يعود إلى عشرة آلاف سنة قبل الوقت الحاضر، وهذه النتائج الأثرية أصبحت الآن حقائق معترف بها لدى علماء الآثار والمناخ القديم في جميع أنحاء العالم مصداقاً لحديث رسول الأمة صلى الله عليه وسلم ” ” لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكْثُرَ الْمَالُ وَيَفِيضَ ، حَتَّى يَخْرُجَ الرَّجُلُ بِزَكَاةِ مَالِهِ ، فَلَا يَجِدُ أَحَدًا يَقْبَلُهَا مِنْهُ ، وَحَتَّى تَعُودَ أَرْضُ الْعَرَبِ مُرُوجًا وَأَنْهَارًا ” رواه مسلم.
وأشار إلى أنه بعد دراسة معابر الهجرات الأولى نشرت دراسة قام بها مجموعة من الباحثين من جامعة كورنيل الطبية بالولايات المتحدة الأمريكية، وجرت على جينات السكان الأصليين في الجزيرة العربية.
وأثبتت الدراسة أن السكان الأصليين لقارتي أوروبا وآسيا استوطنوا في أرض الجزيرة العربية قبل أن ينتقلوا منها أو أنهم منحدرون من سكان الجزيرة العربية, بالإضافة إلى ذلك فإن المتأمل في التاريخ الحضاري في الجزيرة العربية يدرك أن مسار هذا التاريخ بني على قضية التوحيد منذ أن وضع الله بيته الأول في قلب الجزيرة العربية ومروراً بالأمم البائدة عاد وثمود التي هي عاشت على أرض الجزيرة العربية، وورد ذكرها في القرآن الكريم وانتهاءً بالإسلام الرسالة الخالدة في المكان نفسه, وكل ما كان بين هذا وذاك وقبله والله أعلم كما في اعتقادنا تهيئة وتحضير لاستقبال أعظم حدث شهده العالم كما قلت، وشهدته الجزيرة العربية على الإطلاق في تاريخها، هو نزول القرآن الكريم على أخر الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم وتكليفه صلى الله عليه وسلم برسالة الإسلام العظيمة إلى الناس كافة, وإن ما قام به أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام والرسالات السماوية والأديان التي جاءت بعده في منطقة الشرق الأدنى ما هي إلا تجديد كعقيدة توحيد وتمهيد مبكر لبزوغ شمس الإسلام من أرض الجزيرة العربية، وإن كان الفارق الزمني بين إبراهيم عليه السلام محمد صلى الله عليه سلم يناهز 24 قرناً فخلال تلك الفترة ظهرت الممالك العربية على أرض الجزيرة العربية المبكرة مدين ودوم وقيدار والمتوسطة سبع ولحيان ومعين وكندة الأولى والأنباط والمتأخرة الغساسنة والمناذرة وكندة الثانية اشهرها طبعاً.
وتشكلت المقومات الرئيسية للجزيرة العربية التي اعتمدت على التجارة عبر منظومة طرق التجارة جنوباً وشمالاً وشرقاً وغرباً وطرق الحج التي أيضاً ارتبطت معها طرق التجارة, مستفيداً من الموقع الجغرافي المتميز للجزيرة العربية بوصفها نقطة التقاء الحضارات شرق العالم القديم وغربه, وإن نشوء هذه الممالك والحضارات والحراك الاقتصادي المصاحب والقوى الحربية العسكرية التي نشأت لتأمن وتحمي التجارة الدولية هيئأت سكان الجزيرة العربية عبر الوقت والعصور ثقافياً, واقتصادياً, وعسكرياً, وسياسياً لحمل الأمانة الكبرى وهي استلام رسالة الإسلام ونقلها إلى العالم بأجمع.
وشكل تطور اللغة العربية المتفوقة التي نزل بها القرآن الكريم ونضوج أساليبها وصيغها وامتلاك العرب ناصية البيان في لغاتهم التي بلغوا فيها قمة الفصاحة والبلاغة خطوة رئيسة في مسار التهيئة فلقد نزل القرآن الكريم في لحظة تاريخية يعتز ويفاخر فيها شعب الجزيرة العربية بلغتهم وتفوقها والناضجة.
وبرزت ملامح ذلك التفوق في الخطابة وشعر المعلقات التي أسهمت مواسم الحج وأسواق العرب وأهمها سوق عكاظ الذي أعيد إحياؤه في المملكة، في الصيت الذائع والانتشار العريق لتكون اللغة العربية جاذبة لأن يتعلمها ويتداولها الناس ولكي تنتقل مع قوافل الحج والتجارة القديمة إلى أصقاع المعمورة والتي أسهمت في تهيئة الناس لاستقبال وفهم لغة القرآن الكريم لحظة نزوله على نبي الأمة.
وتتحقق بذلك معجزة القرآن الذي تحدى العرب بتفوقهم اللغوي أن يأتوا بمثله كما قال تعالى في محكم كتابه “قل لأن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً” الإسراء.
وتطور الخط العربي من خلاصة أقلام عدة كتب بها العرب طوال ألفي سنة قبل الإسلام ليكون الخط العربي قادراً على تدوين القرآن الكريم عند نزوله والدليل على ذلك إن أول آية نزلت في القرآن الكريم تدعو إلى القراءة والكتابة أو التعلم، حيث قال تعالى في محكم كتابه “اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم” القلم, ودعوة إبراهيم عليه السلام لربه لتوفير الأمن والرخاء لسكان المكان الذي بنيت فيه الكعبة المشرفة ونزل فيه القرآن الكريم لم يكن خاصة بمكة المكرمة؛ وإنما شملت كامل الجزيرة العربية كوحدة جغرافية وبشرية سخرها الله لخدمة الحرمين الشريفين واستقبال الإسلام والانطلاق به لأرجاء الدنيا, ولم تكن مقصورة على عصره بل ممتدة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وقال الله في محكم كتابه وعلى لسان إبراهيم عليه السلام (َّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) ولذلك فإن دعوة إبراهيم عليه السلام في ظني ربطت عبادة الله والتوحيد والصلاة والتي هي الصلاة عماد الدين شاملاً وتشمل ذلك في مصطلحات الصلاة كلما يعني ذلك من عبادات وقيم أخلاقية وإنسانية سامية اتى بها دين الإسلام، شمل ذلك بالخير والازدهار هذه الآية الكريمة الدعوة لهم بالخير والازدهار والاستقرار والرفعة في الجزيرة العربية، وأن التزام شعوب هذه الأرض المباركة ولا ننسى طبعاً أن الهجرات الإنسانية من أرض الجزيرة العربية شملت الدول الآن التي تسمى دول محاذية لنا وهي دول مستمرة الدعوة لهم جميعاً.
وإصرار شعوب هذه الأرض المبارك بذلك هو أساس لاستمرار نعم الله عليهم من خير وأمن ورفعة، كما أن بناء الكعبة جعل أفئدة من الناس تهوي إلى هذا المكان نتيجة إلى أن الجزيرة العربية وقلبها مكة المكرمة كانت هي مؤل للحج مصحوبة بالتجارة، وتبع ذلك النشاط المنظم لرحلات الشتاء والصيف والنشاط الاقتصادي والثقافي لسوق عكاظ وغيره من أسواق العرب المشهورة قبل الإسلام.
وأصبحت الجزيرة العربية عبر مراحل تاريخها قوة اقتصادية وسياسية وحضارية وثقافية مهيئة لنزول القرآن الكريم في لحظة تاريخية مقدرة, كما ووصلت فيها تلك المعطيات ذروتها في مكة المكرمة في مطلع القرن السابع الميلادي تقريباً كأحد أو أهم قوة سياسية عسكرية ثقافية على أرض الجزيرة العربية في ذلك الوقت بقيت, وبعد نزول الإسلام وبعثة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم توحيد قبائل الجزيرة العربية لتسهم في حمل راية الإسلام إلى بقية شعوب الأرض، وهي أول وحدة شهدتها الجزيرة العربية في تاريخها, فنهض شعب الجزيرة العربية لمساندة نبي الأمة لتوحيد أرجائها ونشر الرسالة، وتأسيس الدولة الإسلامية الكبرى التي تعاقبت داخل الجزيرة العربية وخارجها.
وقد شهدت الجزيرة العربية بعد ذلك نشأة العديد من الدويلات والأمارات الصغيرة، وعاشت حالة من الشتات السياسي والاجتماعي كما هو معروف حتى قامت الدولة السعودية المباركة في منتصف القرن الثامن عشر الهجري بتوحيد أجزاء كبيرة منها سياسية وجغرافياً واجتماعياً وبناء كيان راسخ أساسه الإسلام وخدمة المسلمين وترسيخ القيم العربية والإسلامية السامية وبناء الإسلام وإعمار المكان وتحقيق الأمن والاستقرار والازدهار والإسهام في مستقبل الإنسانية جمعاء وربط العزة والخير بالدعوة والتوحيد وخدمة الحرمين الشريفين وإعلاء كلمة الإسلام شعاراً ومنهاجاً لها.
وتمسك بذلك أئمة الدولة السعودية المؤسسون ومواطنوها طوال تاريخها الذي أمتد قرابة 300 عام وحتى هذا اليوم ولله الحمد, مؤكداً ذلك الملك المؤسس عبدالعزيز رحمه الله وجميع أبنائه ملوك الدولة من بعده بدون استثناء, كما التزم به جميع المواطنين الذين نهضوا لجمع شتات هذه البلاد المباركة وتوحيدها مؤكدين أن خدمة الحرمين الشريفين والإسلام والمسلمين في أعلى مراتب رسالة الدولة ومهمتها الأولى, وأن وحدة الجزيرة العربية الأولى ورسالة أهلها والدولة التي جمع الله فيها شملهم قامت على تلك المبادئ الراسخة، وأن استمرارها وازدهار مربوط بتمسك أهلها بهذه المبادئ وهذه القيم فهي ليست وحدة سياسية وجغرافية فقط؛ بل وهي وحدة قلوب على أرض شكلت قلب الإسلام وقبلة المسلمين، وهكذا فإن السجل الحضاري للجزيرة العربية يؤيد بدوره احتماليته للإنسان بدءاً من أرض الجزيرة العربية أيضاً كون الله سبحانه وتعالى اختارها لتكون حاضنة لبيتها العتيق وللرسالة الخاتمة وأعظم كتاب أخرج للناس, ولاشك أن مستقبل الدراسات الميدانية في الجزيرة العربية وعلى وجه الخصوص في المملكة العربية السعودية وما حولها التي تشكل ثلثي مساحتها كفيل بالإجابة على التساؤل الكبير الذي يطرحه الكثير من الناس وهو هل بدأت حقاً حياة الإنسان في شرق أفريقيا وفقاً لما يقوله علماء الآثار ولماذا؟.
وقد أتى هذا البحث من منطلق الإسلام الذي جاء لكي يؤكد التوحيد وهو دين البشرية وخاتم الأديان، وأن الله اختار أرض الجزيرة العربية وشعبها لحمل هذه الرسالة السامية منذ خلق الله البشرية وأن التعاقب الحضاري والبشري والاقتصادي الكثيف على هذه الأرض المباركة عبر التاريخ يدل على حراك مستمر لتهيئة المكان والإنسان لحمل هذه الرسالة السامية للعالم, وهذا يطرح هذه الورقة مستنيراً بهداية الله سبحانه وتعالى فإنما هي محاولة مخلصة لقراءة أكثر شمولية لأهم قضية تمس الإنسان والجزيرة العربية والمسلمين كافة، فمن المهم في هذا العصر الذي يجد فيه المسلمون أنفسهم في مواجهة مع الحضارات الأخرى أن نعيد التفكير فيمن نحن وما هو دورنا في الحراك الإنسان المستقبلي منطلقين من قراءة جديدة في تاريخ الإسلام الذي بدأ والله أعلم منذ خلق البشرية، وإن كل ما حدث منذ ذلك الوقت الذي لا يعلمه إلا الله كان تسلسلاً يؤدي إلى بزوغ شمس الهداية والخير من مكة المكرمة في قلب الجزيرة العربية وعلى يدٍ عربيةٍ من خيرة أهلها في فترة زمنية مهمة كانت فيها مكة المكرمة محوراً إستراتيجياً حضارياً وسياسياً واقتصادياً وثقافياً وملتقى للقوافل التي جاءت للحج والتجارة، والتي قلت في محاضرة أكسفورد إنها وفرت وسيلة تواصل عالمية مثل ما تقوم به الشبكة العنكبوتية، مما شكل كياناً ذا قوة سياسية متنامية وساعد على انتقال رسالة الإسلام والقرآن الكريم بلغته العربية الراقية التي تطورت عبر آلاف السنين حتى نزل بها القرآن الكريم إلى أرجاء المعمورة كل ذلك يؤكد أن الإسلام العظيم لم ينشأ من أرض مفرغة من الحضارات أو المعرفة أو الأخلاق أو القيم العربية الأصيلة مصدقا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق” التي كان العرب ينتمون لها ويعتزون بها.
وفي الختام أقول أننا ننظر إلى المستقبل واثقين بالله تعالى إن شاءالله بأن شعب هذه الأرض المباركة قادراً بمشيئة الله تعالى على بناء مستقبل زاخر بالخير والازدهار، الأرض التي شهدت أحداث مهمة عبر أطوار التاريخ وتشاهد ذلك اليوم وتقاطعت عليها الحضارات، ما دام هذا الشعب ثابتاً على المبادئ السامية والرسالة التاريخية التي حققت له الخير والأمن والاستقرار”.
وبعد انتهاء سمو رئيس الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني من ورقته شهدت الجلسة عددا من المداخلات من المشاركين والحضور.
وأكد معالي الدكتور فهد السماري على أهمية الورقة التي طرحها الأمير سلطان بن سلمان، مشدداً على ضرورة الاستمرار بالقراءة وتأسيس هذه الرؤية، معتبراً أن هناك من المؤرخين من ينور ويفسر كيف كان التاريخ والحياة في حقب زمنية محددة دون الوصول الى معرفة تاريخية حقيقية تحليلية للعمق الحضاري لهذه المنطقة.
وأضاف أن ما قدمه رئيس هيئة السياحة في ورقته اليوم، هو إعلان صريح للمؤرخين لأهمية إعادة تحليل النصوص القديمة بأدوات قوة المصدر والمقاربة في المكان والزمان والتحليل العميق.
وقال الدكتور علي الغبان: “أن ورقة الأمير سلطان التي طرحها بهذا التوقيت، ستأتي نتائجها من خلال العمل الميداني الأثري في الجزيرة العربية مستقبلا، وأنه بالفعل أصبح لدينا عدة مشروعات بحثية أصبحت تفرز نتائج من شأنها أن تغير الحقائق التي كانت سابقاً، حيث لم يكن هناك قبل فترة أي حقيقة علمية تؤكد أن الإنسان عبر إلى بقية أرجاء الأرض عن طريق الجزيرة العربية وانتقالهم إلى الجهة الأخرى من العالم، ونحن نعمل الآن على تكثيف العمل الميداني في فترة ما قبل التاريخ وعلى وجه الخصوص فترة العصر الحجري القديم وهي فترات زمنية سحيقة ونحن على يقين أنه سوف تستجد أمور جديدة لدعم ما طرحته هذه الورقة النظرية وستتحول بالأدلة المادية مستقبلا والى حقائق علمية.