ملامح صبح

زامر الحي (يتغيزل) على شرفة جبل ! (1/2)

الشعر الجميل يتسلل إلى أعماق الروح ويتشذى في فياض الوجدان خصوصاً عندما نجد الصورة المبتكرة والخيال المجنح وانزياح الرؤى والخروج عن المألوف حتى في فكرة النص ، ولا أدل على ذلك من تمرّد الشاعر على مقولة شهيرة (زامر الحي لا يطرب) فهو هنا لا يكتفي بمجاملته بالسكوت – إن لم يتذمر- بل يدعوه لأن يشنّف سمعه ويناجي روحه بعذب بوحه وسلسبيل كلماته.

إنه استهلال لا يكتفي باستحضار الذائقة فحسب بل يستدعي الفكر لأن يلجَ النصَ بكامل يقظته وحدسه ، مع ما يجد القارئ مما يطرب الذائقة من بديع القول وما تستريح إليه النفس من الترانيم ( لحونك) ، ثم عبارة (لا عدمناك) تنسف ما تبقى من المقولة الشهيرة(زامر الحي لا يطرب) فالقضية ليست سماع عابر بل رغبة في الاستزادة والاستمتاع ، بل إن كل الأرجاء (مسرح أحلامك وكل الفن فنك) فكل المشاعر تتعطش لسماعك وكل الحواس تتلهف للتماهي مع بوحك.

*إمعاناً في مظاهر البهجة يقول (ولّفت) أي جمعت الأحباب الذين طالما اشتاقوك وتساءلوا عن سبب غيابك.الصورة ليست شاعرية بدرجة كبيرة إن فهمناها على سطحيتها ، ولكن عندما نعرف من الضيف ومن المُرحّب ومن هم الأحباب سنجدُ فيها كل الشاعرية و(كل الفن).لم يتضح بعد فاعل (ولّفت) أهو الشاعر المُرحِّب أم الزائر المقيم لكن عجز البيت يفصح عن هوية الفاعل..أسقيتهم .. هيلك و بِنّك !وإن لم يتضح أيضاً في الفعل أسقيتهم من الفاعل إلا أن كاف الخطاب في (هيلك و بِنّك) تؤكد أن الضيف المقيم (زامر الحي) هو الذي ولّف و هو الذي أسقى !

ثم في عتاب مبتهج يقول غيابك الذي كان له ما كان ، ينتهي بلحظة من (رضاك وضحك سنّك).. ويا لِهذا الغائب الذي لم يطمح الشاعر بأكثر من رضاه وضحك سنه ، مع أن الذي يقابل الغياب هو الحضور وليس مجرد الرضا !هذا يعني أن الغياب لم يكن لِبُعد مكاني أو فراق زمني فهو ضيف استثنائي يًصّر الشاعر في تماديه في الخروج عن المألوف فيطلب منه القِرى والضيافة التي يجد أكرمها في صفو المزاج وأنبلها في تهلل التباريح وأعبقها في انسجام اللحظات (تصانيفك وفي ضحكة محياك) ، وأحَبّها (بساطتك) التي يحب الشاعر عفويتها وتلقائيتها بلا تكلّف ولا سبق تهيّؤ ، فلا يريد منه سوى تلك العفوية والتلقائية التي تتناغم مع كل مايسر الخاطر ،

هكذا يريده بعيداً عن ضجّة الدنيا وصخب الأحداث مُعرضاً عن الأقاويل والمشاحنات .لذلك يدعوه إلى أكثر الأشياء صمتاً في بيئتهِ التي يحب هدوءها ، ثم يتدرج من الهدوء المُطبق إلى دفء حديث الدور إلى أغاني الرُعاة فيقول 🙁 الحصن والدار والديرة !).. خليّة من خلاياك !فهي جزء منك تعانقها بنبضك وتحتويك بحميميتها ..تكنّها في عروقك وانسجتْك وهي تكنّك !أحب الأجواد..! عجباً للشاعر فبعد كل ما قدم للضيف المقيم من مراسم الضيافة الخارجة عن المألوف في قوله (كل الفضا مسرح أحلامك وكل الفن فنّك !)، (الحصن والدار والديره..) ، بعد كل هذا يقول أحب الأجواد !..فهل يحب نفسه وينسى الضيف (زامر الحي !) ؟

واللي ما يحب الجود يفداك أي ضيفٍ وأي مضيف هذا !.. يستجدي قِراه فيقول (هات القرى) ثم (واللي ما يحب الجود يفداك ) ! ما اصعب من الجود لا ظلى رفيقك ما يحنّك !هنا تعجب مرةً أخرى أن يطلب منه الجود ويخبره بصعوبته خصوصاً أنه يطلب منه المزيد فهو لن يكتفي (ما يحِنّك) أي لا يتوقف عن طلب المزيد لذلك فليس أمام هذا الزائر إلاّ أن يبقى مقيماً ليتلافى مراسم الضيافة والجود الذي لا يريد الشاعر له أن ينتهي ، لذلك دعاه إلى البساطة والعفوية والتلقائية التي يحبها بعيداً عن التكلّف والافتعال.. حينها سيحتفي الشاعر بالزائر الكريم وعفوِ عطائه !.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *