د. عدنان عبدالبديع اليافي
أبحر في كتابات بعض الرحالة :
جاء رحالة عرب وغربيون على ذكر خليج (شرم) أبحر في كتاباتهم عن رحلاتهم التي زاروا فيها مدينة جُدَّة أو ذكروها . وسنلقي الضوء على أمثلة من كتابات بعض الرحالة عن (أبحر) .أولاً : الرحالة الدنمركي كارستن نيبور :زار الرحالة الدنماركي كارستن نيبور جُدَّة عام 1762م على رأس فريق علمي أرسله ملك الدنمارك فردرك للتعرف على جزيرة العرب وأهلها . ويعتبر كارستن نيبور أول رحالة أوربي مستكشف يصل مدينة جُدَّة (وإن كان قد سبقه بعض المغامرين الأوربين مثل فاريثما عام 1503م وجوزيف بتس عام 1680م إلى جُدَّة) ، إلا أن هؤلاء لا يعدون رحالة مستكشفين بالمفهوم العلمي للكلمة . وعند دراسة خط سير رحلة نيبور من السويس إلى جُدَّة نجد أنه توقف في أبحر قبل أن ترسو سفينته في ميناء جُدَّة .يقول نيبور عن خط سير رحلته تلك ما ننقل منه بتصرف :ومنذ انطلقنا من السويس أبحرنا نحو الشرق فتمكنت من رؤية الشمس في الهاجرة ، وأنا في المقصورة . في 27 أكتوبر ، وقبل الظهر بدقائق ، توجهنا نحو الجنوب مباشرة ، مما منعني من تحديد ارتفاع القطب بدقة .. وبعد الظهر ، أبحرنا نحو الجنوب والجنوب الغربي ، ويمتد شاطيء شبه الجزيرة جنوباً حتى جُدَّة . وعند الساعة الواحدة ، مررنا أمام ( أم المسك) ، وهي جزيرة صغيرة قرب الشاطيء ، وبعد الساعة الثانية ، كانت جزيرة (حرام) ، وهي جزيرة صغيرة أخرى ، إلى الغرب منا . ثم بعد ذلك ، أبحرنا في قناة ضيقة للغاية بين أرصفة المرجان , ويحاول أي بحار أوربي التوجه إلى عرض البحر , لكن ريس سفيتنا ارتأى عدم الإبتعاد عن الشاطئ حتى يتمكن والركاب من الهرب إلى اليابسة إن غرقت السفينة .وعند المساء رسونا قرب رأس الحطبة … وفي 28 ظهراً وصلنا قبالة جبل وكر (Wakr) وأمضينا الليلة أمام أبحر (Obhar) , حيث يدخل الخليج عميقاً في اليابسة حتى ليظنه المرء نهراً . إن مدخل هذا المرسي ضيق للغاية , لكنه آمن حتى أننا لم ننزل المرساة , وأكتفينا بربط السفينة من الجهتين بحجارة كبيرة في أرصفة مرجانية , وتقع أبحر على خط عرض 21 , 20 , إلا في حال وجود شاطئ مستقيم بعيد يقع قرب الهاجرة , جعلني أخطى في تقديري .وفي الـ 29 منه صباحاً غادرنا أبحر بعد هبوب رياح رملية , ووصلنا عند الثانية من بعد الظهر إلى جُدَّة ورسونا على بعد نصف ميل إلى غرب المدينة , على خط عرض 21 , 27 بين أرصفة المرجان (13) .ثانياً الرحالة الأندلسي القاسم بن يوسف التجيبي السبتي:الرحالة القاسم بن يوسف بن محمد بن علي التجيبي , البلنسي السبتي , وهو من قبيلة (تجيب) بضم التاء , من أقدم القبائل العربية التي نزلت بالأندلس , وسكنت منطقة سرقسطة , وغيرها , هاجرت أسرته إلى سبته , ضمن بعض الأسر الأندلسية , ولد سنة (670هـ-1271م) قام هذا الرحالة برحلة زار خلالها مصر وبلاد المغرب العربي وبلاد الشام كما زار الديار المقدسة لاداء فريضة الحج عام (696هـ) وزار خلال رحلته تلك مدينة جُدَّة (14) .وقبل الوصول إلى جُدَّة رست السفينة التي كانت تقل السبتي وصحبه في مرسى (أبحر) , وذلك في اليوم السابع من رمضان سنة (696هـ) (15) .وقد ترك لنا السبتي وصفا دقيقاً لمرسى وخليج أبحر في كتابه عن رحلته جاء فيه: ثم بلغنا من مرسى المربوطة في المركب الواصل مستبشرين بالتيسير والتسهيل بفضل الله ورحمته , فكان الأمر كذلك , وأعطانا الله ريحاً رخاء طيبة , وجعل لنا البحر مثل الصهريج , ولم تزل الحال كذلك إلى أن دخلنا مرسى من مراسي الحجاز الشريف يعرف بأبحر , ولله الحمد والشكر , وذلك في يوم الجمعة السابع لشهر رمضان المعظم من سنة ست المذكورة (696هـ).وهذا المرسى من أحسن المراسي وضعاً , وهو شبه خليج من البحر يدخل في البر , والبر مطيف بحافتيه , ويُكّن من جميع الأرواح , وباستقرارنا فيه عادت لأجسادنا الأرواح , وأمنِّا في مركبنا من أختلال الدسر والألواح .وبين هذا المرسى وبين جُدَّة نحو ساعتين من نهار . فبتنا فيه ليلتنا تلك , وقد استبشرنا ببلوغ المقصد الأسنى بفضل الله ورحمته , لأن السفر لا يمكنهم في هذا البحر ليلاً , إذا قاربوا البرّ , لكثرة شعبه وترشه , وهو من أعجب العجب في ذلك , ولولا تردد الملاحين فيه وخبرتهم به ما سلكه أحد , فتراهم إذا قاربوا البرّ أجلًسُوا أحدهم في مقدم المركب , يبصر ما لاح أمامه من الترش , ويقول للذي يمسك الخيزرانة : جرّ إليك , وادفع عنك .ولولا ذلك ما عبر أحد هذا البحر , وآفاته كثيرة . والأمر فيه فوق ما وصفنا . وبسبب كثرة ترشه لا يسافر فيه اليمنيون إلا نهاراً ، فتراهم إذا قرب الليل آووا إلى مرسى يلجئون إليه خوفاً من معاطبه , يرسون به نهاراً , ويقلعون منه نهاراً , وهكذا حالهم دائماً فيه , سير النهار , وإقامة الليل , حسبما قدمنا ذكره , بخلاف المسافرين في صحراء عيذاب المذكورة , لأنهم يقيمون نهاراً , ويسيرون ليلاً .ثم أقلعنا من مرسى أبحر غدوة يوم السبت الثامن لشهر رمضان المعظم المذكورة , فدخلنا ضحى اليوم المذكور جُدَّة حرسها الله عن عهد أربعة وعشرين يوماً من عيذاب محتسبة عند الله عزوجل لما رأينا فيها من الأهوال والأحوال الشاقة , ولكن على قدر المشقة يكون بفضل الله تعالى ولطفه الأجر (16).ثالثاً الرحالة العربي ابن جبير:أحد أعلام الحضارة العربية في ميدان الرحلات “ابن جبير” ترك لنا وصفاً دقيقاً لخليج ومرسى (أبحر) عندما رست سفينته فيه قبيل وصوله مدينة جُدَّة في طريقه إلى مكة المكرمة لاداء فريضة الحج عام (579هـ-1083م) (17).وقد ذكر ابن جبير أنهم عندما إقتربوا من بر جُدَّة صادفتهم ريح رخاء طيبة فأرسوا في جزيرة صغيرة في البحر على مقربة من بر جُدَّة بعد أن لقوا شعاباً كثيرة يكثر فيها الماء فتخللوها على “حذر وتحفظ” . وقال ابن جبير : إن اسم تلك الجزيرة كان : ” عائقة السفن” .وأقول : إنه من وصف ابن جبير – رحمه الله – لتلك الجزيرة يمكن الاستنتاج أنها ربما تكون الجزيرة التي نسميها اليوم (أم الحجر) .وفي يوم الأحد الثاني من شهر ربيع الآخر عام 579م الموافق الرابع والعشرون من يوليو سنة 1183م أرسى ابن جبير وصحبه قاربهم في مرسى (أبحر) الذي أعجب به ابن جبير كل الأعجاب وقال عنه : “إنه على بعض يوم من جُدَّة ” . كما قال عنه : إنه من أعجب المراسي وضعاً ، وذلك أن خليجاً من البحر يدخل إلى البر والبر مطيف به من كلتا حافتيه فتُرسي الجلاب (القوارب) منه في قرارة مُكنِّةٍ هادئة .فلما كان سحر يوم الأثنين بعده أقلعنا منه على بركة الله تعالى بريح فاترة ، والله الميسر لا رب سواه . فلما جن الليل أرسينا على مقربة من جُدَّة وهي بمرأى العين منا . وحالت الريح صبيحة يوم الثلاثاء بعده بيننا وبين دخول مرساها ، ودخول هذه المراسي صعب المرام بسبب كثرة الشعاب والتفافها(18) .وبمقارنة ما قاله ابن جبير عام 579هـ عن أبحر بما ذكره السبتي عام 696هـ أي أكثر من قرن ، نجد أن مرسى أبحر ظل قائماً بمهمته في استقبال بعض السفن المتوجهة إلى جُدَّة حتى ذلك الوقت على أقل تقدير .كما نلاحظ أن ابن جبير سمى الجزيرة الصغيرة باسم : ( عائقة السفن) إلا أن ذلك الاسم تغير بعد قرن من الزمان إلى(المربوطه) كما قال السبتي . وأصبح اليوم في القرن الواحد والعشرين الميلادي : اسم هذه الجزيرة (أم الحجر) . ويرجع الأنصاري – رحمه الله – تغير الأسماء ذلك إلى : قاعدة أن أسماء الأماكن قد تتغير بتغير الظروف والسكان والعابرين إليها” (19) .الخاتمة :هذا هو شرم أبحر الذي أُعْجبَ به الرحالة الشهير ابن جبير عندما زاره في القرن السادس الهجري ووصفه بأنه : ” إنه من أعجب المراسي وضعاً” . وما زلنا نراه اليوم كما وصفه ابن جبير وغيره من الرحالة منذ مئات السنين :خليجاً من البحر يدخل إلى البر ، والبر يطبق به من كلتا حافتيه ، فَتُرسِي الجلاب (القوارب) منه في قرارة مكنة هادئة كما قال ابن جبير – رحمه الله يذهب إليه أهل جُدَّة في زمننا هذا في بعض أيام العطل للإستمتاع بهوائه العليل والإبحار في مائه الأزرق الجميل ، بينما يسكن البعض بالقرب منه حيث يكاد أن يصبح محيط أبحر جزئاً من مدينة جُدَّة الحديثة .