م/ شاهر محمد رقام
نشأت وأقراني والحياة لم تزل بسيطة، لا تكلف فيها ولا تعقيدات. لم يكن يُقلق آباءنا نمونا في اتجاه السماء، كان الخياطون يضيفون لأثوابنا ثنيات في اسفل الثوب وعلى الذراعين تحسباً لذلك النمو. مشينا للمدرسة على أقدامنا حاملين كتبنا بشتى أنواع الحقائب، أكياس قماش، أكياس بلاستيك، سجادة صلاة، شنط جلدية أو شنط فاخرة. مشينا للمدرسة صيفاً وشتاءً، صائمين ومفطرين ولم تتغير ساعات دوامنا. أجبرتنا أمهاتنا بقوة السلاح على لبس الصوف فوق ثيابنا في أيام البرد ولم نكن نقاوم ذلك لأننا نحب البرد بل لأن تلك الملابس الصوفية أصبحت قديمة وصغيرة وتطبق على أجسادنا النحيلة وتصبح ثيابنا من تحتها منتفخة مثل تنورة نسائية.
بدايتنا مع التعليم كانت موازية للنكسة وأوسطها تزامن مع حرب رمضان ونهاية التعليم تزامن مع كامب ديفيد متبوعاً بأحداث الحرم. ثم شاهدنا الجهاد الأفغاني الذي تحول إلى إرهاب عدواني. فرأينا التفجيرات هنا وهناك باسم الدين. وتطور الحال إلى أن شاهدنا من يقتل أباه وينحر أمه باسم الدين. ورأينا الجحيم العربي وكيف انفلت حال بعض الدول.
جلسنا إلى أفقر الموائد تقشفاً لا زهداً نمضغ ذاك الفول النابت إما لأسباب اقتصادية أو أسباب عملية أو أسباب صحية وشرح ذاك يطول. وجلسنا أيضاً إلى أغنى الموائد نتناول الكوزي لحماً أو حوتاً والمحمر من أنواع الطيور. وفي الحالتين كنا نحمد الله ونشكره ولم نتجرأ يوماً على احتقار النعمة.
في مدارسنا حلمنا لسنتين بأن نكتب كالكبار بأقلام الحبر. حلمنا لسنين بدراجة نركبها توصلنا بسرعة وراحة إلى المدرسة. جلسنا في فصول مزدحمة لا يوجد بها تكييف ولا مراوح ولم نشعر بانزعاج. كان يكيفينا أن ننعم ببعض الظل كي نشعر بالراحة. كنا نمارس الرياضة في اوقات الزوال وتحت أشعة الشمس وكنا نشعر بالسعادة. لعبنا حفاة ولعبنا بالأحذية. لعبنا بثيابنا نشمرها ولعبنا بملابس قيل عنها رياضية. انتعلنا أحذية إيطالية وانتعلنا أيضاً (المداس الكفر) نعالاً تصنع من مطاط عجلات السيارات القديمة. وكنا في كل الأحوال سعداء ننام قريري الأعين. لم نعرف السهر وكنا أقرب إلى الفطرة. كنا ننام بعد صلاة العشاء بوقت قصير ونستيقظ بأنفسنا قبيل الفجر. بالتأكيد لم نكن ملائكة، كان لنا بعض شقاوة ولكن كان البيت والمدرسة والشارع وكل من يرانا ويكبرنا له الحق في تربيتنا ابتداءً من النصح والزجر وانتهاءً بالعقاب والضرب.
ذهابنا إلى المدارس وواجباتنا المدرسية لم تكن تعفينا من أعمالنا المنزلية ومن مساعدة آبائنا في أعمالهم ولم يعفي أخواتنا من أعمالهن ومساعدة أمهاتنا.
ثم جاءت الطفرة ونحن في مقتبل الشباب فتبدلت حياتنا وأصبحت فجأة حياة مترفة طغى عليها الطابع الإستهلاكي. لم يعد لنا هم سوى ملابسنا وبطوننا. اختفت من ثيابنا تلك الثنيات الإضافية وأصبحنا نزدريها ولم نعد في حاجتها فنمونا أصبح أفقياً وليس رأسياً.
استبدلنا أحلامنا البسيطة باحلام مركبة. أصبحنا نحلم بالسيارات الفارهة والعمارات الشاهقة وحتى بنت الجيران استبدلناها في أحلامنا بنجمات السينما. حلمنا بالثراء والمناصب مع الراحة دون عناء.
واستمرت الأحلام، وتخرجنا من الجامعة وذهبنا كلٌ إلى وظيفته وتزوجنا وأصبح لكلٌ واحدٍ عائلة وأبناء. وتحت ضغط الحياة وطلباتها التي لا تنتهي بل تزداد يوماً وراء يوم، تخلينا عن جُلِّ أحلامنا وركز معظمنا في حلم واحد فقط نلهث خلفه وكلما جمعنا مبلغاً نكتشف أن حلمنا أصبح أغلى ثمناً.
ألا يذكركم هذا المشهد بجزرة يطاردها.
وأخيراً وبعد أن مضى العمر أكثره، اكتشفنا أن الحلم كان سراباً وأن الأحلام وهم كان يسكن آلامنا. فأفقنا كما قال ناجي في وداعيته:
وانتبهنا بعد مازال الرحيق
وأفقنا ليت أنّا لا نفيق
يقظة طاحت باحلام الكرى
وتولى الليل و الليل صديق
جميل أن يكون لك حلم والأجمل أن يرزقك الله القناعة. اللهم رضنا بما رزقتنا وآتنا سعادة الدارين.