الباحة – بخيت طالع ..
وأنا في طريقي إلى قرية ذي عين الأثرية بالباحة، كان لابد لي أن أسلك طريق عقبة الباحة بطول 24 كم، منطلقا من مدينة الباحة ونزولا إلى تهامة زهران، وعبر ذلك الطريق الأسطوري الذي يشبه المعجزة، حيث كان يتلوى كثعبان عملاق متمدد على الانحدار السحيق الحاد لجبال السروات من ناحيتها الغربية، كنت ادخل في نفق واخرج من الآخر (25 نفقا) وبعد نصف ساعة تقريبا كنت وصلت إلى أرض تهامة، وبدأت تتراء لي قرية ذي عين الأثرية، وعند فوهة الطريق الداخلي إلى القرية انتصبت حجرة موظفي الدخول، الذين نقدتهم عشرة ريالات قيمة دخول الفرد الواحد، فيما كانت أفواج من السياح \" عوائل وطلاب مدارس \" يتأهبون للدخول، وهنا مجمل ما رأيت.
صور عامة
ولقد رأيت أولا كتلة مبان متجاورة من الحجارة تشكل في مجموعها كل القرية، وبعضها متناه القدم والآخر يبدو أنه قريب عهد، وكلها تتربع على جانب جبل صغير قياسا بما حوله من جبال عملاقة، وقرية ذي عين الأثرية تعد من أشهر القرى الأثرية بالمملكة، ولا زالت متماسكة بمبانيها الضخمة المبنية بشكل متناسق ورائع حيث يصل عمر هذه القرية أكثر من400 سنة، وهي تقع جنوب غربي منطقة الباحة في تهامة، على بعد 24 كم عبر عقبة الملك فهد بالباحة، على يسار الطريق المتجه إلى مدينة المخواة، التي تبعد عنها حوالي 20 كم جنوبا.
وقد بنيت القرية على قمة جبل أبيض من الصخر وتضم 31 منزلاً ومسجداً صغيراً (هناك من يرى أن عدد منازلها هو 49 منزلا) وتتكون بيوتها من طابقين إلى سبعة طوابق، وقد استخدم أهالي القرية الحجارة في بنائها حيث تم نقل الحجارة بواسطة الجِمال أو على ظهور الرجال من السفوح المجاورة أما السقف فهي من أشجار العرعر والسدر التي نقلت إليها من الغابات المجاورة، وزينت شرفاتها بأحجار المرو على شكل مثلثات متراصة، كما يوجد فيها بعض الحصون التي كانت تستخدم للدفاع ولحمايتها من الغارات أو لأغراض المراقبة.
هيئة السياحة
وقد اهتمت الهيئة العامة للسياحة والآثار بهذه القرية، وقام صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان بن عبدالعزيز رئيس الهيئة، بزيارة تفقديه لقرية ذي عين الأثرية في محافظة المخواة بمنطقة الباحة في شهر ربيع الأول الماضي 1432هـ، وقف خلالها على أعمال الترميم والتطوير الجاري تنفيذها في القرية. وقد تجول سموه في القرية واستمع إلى شرح عن مشروع التأهيل الذي ينفذه جهاز هيئة السياحة بالمنطقة بتكلفته / 4.000.000 / ريال كما اطلع سموه على مشروع الحديقة العامة التي تنفذها بلدية محافظة المخواة بتكلفة بلغت / 4.000.000 / ريال. وشدد سموه على أهمية سرعة الانتهاء من تأهيل القرية قبل حلول الصيف، لتكون إحد المواقع السياحية لجذب الزوار والمصطافين لمنطقة الباحة.
ورشة عمل
ولقد وجدت في المكان ورشة عمل لا تهدأ في شمالي القرية، حيث يجري العمل حاليا على إقامة مواقف للسيارات تتسع للعشرات منها، وبجانبها يجري إقامة مبان من الخرسانة المسلحة لتكون مطاعم واستراحات للزوار ومحل تموينات ودورات مياه، ونقاط بيع \" أكشاك \" تعرض منتجات مزارع القرية من الموز والكادي والريحان، ومسجد رأيته مبني بالحجارة.
وتخطط هيئة السياحة والآثار لان تكون قرية ذي عين الأثرية في منطقة الباحة موردا اقتصاديا وسياحيا وثقافيا، ونافذة لوظائف جديدة للأهالي ضمن خطة تأهيل وتطوير القرية من خلال 3 مراحل تنتهي الأولى منها قبل الصيف القادم، والأخريان في بحر الخمس سنوات القادمة.
تأهيل القرية
وتأملت بفرح وسعادة \" الممشى \" الذي أقيم مؤخرا غربي القرية وبمحاذاتها تماما، ليكون ممرا للسياح يشاهدون منه وهم يمشون على أقدامهم مباني القرية وقد انتصبت في علو شامخ أمامهم مسافرة إلى السماء، وسوف يلاحظ السائح جمال ذلك الممر أو الممشى الذي يحيط بالقرية من غربيها، وقد رصف بحجارة البيئة نفسها، وأقيمت في نهايته عدد من الجلسات والمطلات، التي كانت تشرف على المزارع، وأقيم على جوانب الممشى حواجز من أخشاب البيئة في إشكال ديكورية هندسية جميلة.
ويؤدي ذلك الممر إلى جنوبي القرية حيث منطقة الشلالات وعين الماء التي تتدفق من بين ثنايا صخور في جوف الجبل، وسيرى الزائر عدد من المطلات التي جرى تنفيذها بشكل جيد من الحجارة، وجلسات تصلح لمجموعات من الزوار لكل جلسة، وفي مكان اخر أقيمت العشش التهامية، وغير بعيد عنها أنشئت مواقع صغيرة فيها مواقد تراثية.
أما ذروة المتعة فكان جدول الماء الذي لا يتوقف عن الجريان، يبدأ من منبع العين ويسير متعرجا متهاديا في طرقات سير السياح حول القرية، وفي بعض أجزائه يتحول لشلال صغير له صوت خرير جميل، إلى أن ينحدر نحو المزارع في بطن وادي القرية حيث البساتين الخضراء، التي احتوت على شجيرات قليلة من النخيل، وغابة من شجر الموز، إلى جانب شجيرات الكادي.
عملية احترافية
وقد وقفت خلال جولتي على قرية ذي عين الأثرية على عملية ترميم المباني القديمة، والحق أنها كانت عملية احترافية رائعة، فالمباني التي تهدم جزء منها رأيت انه تم ترميم الجزء الفاقد منها بأحجار جديدة لكنها من ذات أحجار المنطقة، وبأسلوب البناء التقليدي لبيوت الحجر، ومن ذلك مسجد أديت فيه صلاة الظهر كان مبني بذات الطراز الحجري، وهو غير المسجد السابق بجانب مواقف السيارات، وكان تحفة تراثية متميزة.
ويؤكد جهاز تنمية السياحة بمنطقة الباحة أن قرية ذي عين الأثرية تعتبر من بين الموارد الثقافية بالمنطقة وهي في ذات الوقت مورد اقتصادي واعد للسكان المحليين، ولذلك يسعى المسؤولون إلى تأهيل القرية وتنميتها لتكون مورداً اقتصادياً ومنطلقا لفرص عمل جديدة للأهالي ومشجعا لتنمية الحرف والصناعات التقليدية، ولتكون نقطة استقطاب مهمة نحو سياحية تكاملية.
ملاحظات مهمة
ويبقى من المهم في نظري أن يتم تأهيل مباني القرية من الداخل، وتحويلها إلى مزارات ومتاحف تراثية ناطقة بتراث المنطقة، فالذي ظهر لي أن العمل التأهيلي الحالي ركز على محيط القرية القريب، ولم يصل بعد إلى داخل البيوت الكثيرة الخالية من السكان، ويحتاج العمل القادم إلى بناء طرقات مرصوفة بالحجارة إلى فوهة كل باب من أبواب بيوت القرية والى ساحة كل بيت منها، لكي يكون في مقدور السائح أن يدخل إلى الكثير من تلك البيوت، وان يكتشفها من الداخل، بعد أن كان شاهدها من على قرب من الخارج.
ويبدو أن هناك معضلة ولكن يمكن التغلب عليها، تلكم هي ندرة اليد العاملة المحترفة التي تستطيع إعادة بناء وترميم بيوت القرية بذات أسلوب البناء بالحجارة، فقد مر زمان على انقراض البنائين التقليديين أولئك، إلى جانب أن من المهم تصنيع حجارة البناء من المنطقة المحاذية للقرية والتي تحتاج بطبيعة الحال إلى الوقت الكافي.
الاسم والزراعة
ويعتقد أن تسمية قرية ذي عين الأثرية بهذا الاسم يعود إلى وجود عين المياه الجارية في سفحها الجنوبي على مدار العام وهي عيد مدرارة لا تتوقف عن التدفق بماء حلو صالح للزراعة، ويمكن بعد تنقيته أن يكون صالحا للشرب.
وأهالي القرية يزرعون شجر الموز التقليدي المعروف في القطاع التهامي، والذي يبدو في حجم اصغر من الموز المستورد، وتشكل هذه الثمرة محور من محاور الدخل الاقتصادي للأسر هناك، وقد وجدت بائعا يعرض شيئا منه للبيع على الشارع العام المقابل للقرية، ويبلغ سعر الكيلو جرام الواحد عشرة ريالات. كما تنتج مزارع قرية ذي عين النبات العطري المعروف الكادي ذو الرائحة الزكية، ويتراوح سعر النبتة الواحدة 15 ريالا. وكان الكادي حتى عهد قريب هو ذروة عطر العرائس في حفلات الأفراح، كما تنتج مزارع القرية نبات البعيثران والريحان ليكونا مع الكادي منظومة عطرية كاملة. ويزرع الأهالي هناك بعض الحبوب والحمضيات مثل الليمون، أما شجر النخيل فقد رايته قليلا.
مناخ القرية
ويقول الخبراء أن المناخ مناخ قرية ذي عين حار صيفا معتدل شتاءً وذلك لكونها في منطقة منخفضة وهي ضمن الجزء الذي يسمى بمنطقة تهامة العليا من منطقة الباحة وترتفع عن مستوى سطح البحر بحوالي 1985م تقريبا وتكون الامطار في هذه القرية غزيرة في فصل الصيف حيث تسقط بمعدل كبير جدا وذلك بسبب موقعها بين كتلة من الجبال مما يؤدي إلى تكثف الغيوم وهطول الإمطار الرعدية وعادة ما تكون متوسطة في فصل الشتاء وهذا أعطى القرية ميزة بأن تكون جيدة للزراعة.
قديما وحديثا
وفيما كنت أودع قرية ذي عين الأثرية، كنت أرمق الجبال العالية الضخمة التي انتصبت شرقها، وسرحت بخيالي بعيدا يوم كان أهلها يجدون الأمرين في تسلق تلك الجبال حتى يصلون إلى مدينة الباحة أو السراة بكل مدنها وقراها، وكيف مَنَّ الله تعالى عليها وعلينا بذلك الطريق العملاق الحديث الذي يربطها بالسراة فيما عرف بطريق عقبة الباحة، والآن نرى قرية ذي عين وقد تحولت إلى مزار وقطعة من الجمال الرباني البديع، يرتادها كثير من السياح من جميع أنحاء المملكة ودول الخليج العربي والكل منبهر من طريقة بنائها وكيف كانت حياة أهلها ثم كيف أصبحت صورة هذه القرية الحالمة الوديعة تتواجد في كثير من المعارض وصفحات المجلات والصحف والتلفاز والإنترنت.
