رؤية صالح الصخري
يعدّ العمل الشعري مجموعة من العلاقات تتفاعل مع بعضها البعض لتنتج معنى القصيدة الذي يقوم بإثراء القارئ وتحفيز وعيه وقراءته للواقع، وتأتي الصورة الشعرية في القصيدة ، كوسيلةٍ لكشف موقف ورؤية الشعراء من الواقع ومدى تجربتهم وقدرتهم على تشكيل قصائدهم ،في إطارٍ يحقق المتعة والخبرة لدى القارئ .
والصورة الشعرية من الركائز الثابتة والدائمة في الشعر ،إلا أنها قد تتغير مفاهيمها عند تغير مفاهيم الشعر ،ولكن يبقى الاهتمام بها ما دام الشاعر يبدع ويخلق الفضاء الشعري فسيحاً للناقد والقارئ لكشف ماهيتها.
وما تزال الصورة في القصيدة النبطية العمانيّة الحديثة مستمرة في خلق مساحات الدهشة والتجديد،فهي ذات شاعرها ،ووسيلته للتجريب، وملمحه الذي يميزه عن غيره من الشعراء،فمن خلالها تنبثق ذاته الشعرية وملمحه الأسلوبي
،فهي هاجسه الأكبر والتي يحاول من خلالها النفاذ إلى أفق المتلقي ،ولذلك نجدها عنده بشكلٍ كثيف على نحوٍ تجديدي غير تقليدي ،على العكس تماماً من الشاعر التقليدي والذي بقيت الصورة الشعرية عنده ثابتةً تراوح ما بين الإجترار والخمول.
يقول الشاعر العماني حمد الخروصي (رحمه الله):
طــاح الـــورق آنــا شــجر عــاري
لــيـــت الـــسهــر ينـبـت فعيني نور
فــكـّــيت لاجــل المـــوت أزراري
واخرجت روحي وخاطري مكسور
في هذا المقتطف الشعري يتجلى التصوير الحسي ،والذي نقل عاطفة الحزن واليأس التي غمرت الشاعر وجعلته باحثاً عن الموت كوسيلةٍ للخلاص.ويتفق الخروصي في هذا التصوير مع مقولة محمد غنيني هلال في أن الغاية من التصوير” أن يصل الشاعر إلى تثبيت العلاقات التي تصل ما بين الأفكار والأشياء ،وما بين المادة والحلم،والمحسوس والعاطفة”.
فهو يصبغ صورته الشعرية بصبغة تجربته.
يقول الشاعر عبد الحميد الدوحاني:
كانت السـاعة عــقاربها حروف
تــرســم لــميــلاد لــقيــانا جبين
نــاخــذه ونـــقبله واحنا وقوف
وان تــمادينا طغى فينا الحنين
ترتكز الصورة في هذا المقطع الشعري على التشبيه،والذي هو عنصرٌ رئيسٌ فيها ،فمن خلالها أراد الشاعر أن يعبر عن حالته النفسية في انتظار محبوبته،حيث شبّه عقارب الساعة بالحروف التي تمضي كالثواني ،راسمةً لموعد اللقاء جبيناً ،يقبّله الشاعر كلما مضى الوقت ،بإحساسٍ من الفرح العارم والحنين.وفي ذلك يبرهن الدوحاني على قدرته الإبداعية وفطنته ووعيه الكبير،حيث جعل من نصّه الشعري غابةً من الصور التشبيهية لا تحجب مساحات التخيل والرؤية عند المتلقي.
يقول الشاعر حمود بن وهقه اليحيائي:
تعبتها والشـكّ فـي بالي وفي قلبي يقين
اتمرجح تقول الممر امواج وآنا باخره
وصلـتها والحـلم كان السلم حلم اللاجئين
عسى المنافي تنبت اوطان وحياةٍ زاخره
يرتكز اليحيائي في هذا المقطع على الصورة البصرية،وربما يكون سبب ذلك أن البصر هو الخيار الأمثل للتعبير عن الموقف والطبيعة، فالعين تسهم في إحياء الصورة ، والتي بدورها تقوم بتحريك الخيال لدى القارئ ، وتجعله مستوعباً لماهية الصورة بشكلٍ أكثر شمولاً. ولذلك يرى القارئ أن القصيدة النبطية العمانية الحديثة ، أبرزت جمالية الصورة الشعرية في الشعر العماني الحديث بفعاليةٍ عالية، ممثلةً في ذلك إحساس وتجربة الشاعر العماني ، مازجةً في ذلك بين عناصر الحلم والواقع، بحيث أصبحت جزءا من العالم البعيد عن صلابة الحياة وقسوتها.