بقلم- مريم سعود
عرفنا الشاعر كطائر محلق في سماء الكلمة الحرة ، يتحرر من الأقفاص ويمقت القيود ، فيقتفي احساسه ، يحيا ليغرد كالبلبل الصداح ، لا ليتخفى كالنعامة ، بل يرتقي مسرح الحياة ، وبكل وضوح واستقلالية ، فلا يمكن الوصاية على فكره بأي شكل كان ‘ لكن ، هنا لا تكتمل المعادلة لأن هناك طائراً آخر في نفس الفضاء ، يغرد حول الشاعر أما بجناح التخطئة أو جناح التقريظ ، ولن يكون مقبولا في سماء الشعر والشاعر الا اذا كان ناقدا صادقا ، عندها سيكون همزة وصل بين الشاعر والشعر ، ومسوغاته فقط هي صدقه وإنصافه واخلاقياته ، بعيدا عن الإتجار والإرتزاق . الكلمة الصادقة المسئوولة هي مفتاح التواصل ووعاء الحقيقة المطلقة للنقد الهادف البناء .
فأين نجد تلك القلوب المفتوحة والعقول الواعية والأرواح الناضجة النزيهة ، بعيدا عن الظهور والاستعراض . فالشاعر روح مرهفة جياشة بما يسكنها من شعور مرهف تهيم في جوانحه دون حدود، فهل نتركه حرا طليقا لا يطاله النقد ،أم تراه يدخل في دائرة الاهتمام ويخضع لمعيارية النقد بكامل ارادته. والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة هنا ، أين نجد قلما يقدم لنا نقدا بناء خالصا ،
ويعطي الشاعر قدره ودونما افراط أو تفريط ، دافعا به لفضاءات التطور والايجابية والإنتاج الواعي ،بعيدا عن تلمس الهفوات وتصيد الأخطاء . أين نجد شخصا موضوعيا يمكنه التعاطي مع النصوص دون الدخول في النوايا والمقاصد ودون تهميش أو مبالغة ، أين نجد من يرسم نقطة تواصل جوهرية تخدم الناقد والشاعر معا ،أين أجد الشخص الصادق الذي يرتقى بالشاعر والشعر ولا يعمل على تدمير معنوياته ، أين أجد الشخص الملازم لسد الثغرات وإكمال البناء وإتمام النقص والبعد عن اقتفاء العثرات ؟.يقول جورج سانتايانا(النقد عمل قومي جاد ، إنه يبدي لنا الجنس البشري وهو ماض في فصل الجزء الخالد في روح الإنسان من الجزء الذي يصيبه الفناء ) فالنقد رحلة سياحية تعزف لحنها على الناقد وعلى الشاعر ، رحلة تطوف بالعمل الفني وتسعى لإبراز جماله ،
فمثلا أفلاطون وارسطو ومفكرين وفلاسفة وشعراء وروائيين جعلوا من تأملاتهم ومواقفهم نظريات تطورت وتفرعت لقضية واحدة وهدف واحد وهو تعبير المرء عن ذاته ،وتوالت بغزارة ليبقى الأنسان انسانا بسماته وصورته ‘ فالنقد لايعد من الأشياء الإبداعية بقدر ماهو وعي يبعث على الإبداع . وحتى يحقق ذلك ، يجب أن يكون بعيدا عن المجاملات والمحسوبيات والواسطات والصداقات ، ولايجب أن تخفى رسالته في خضم أية مشاعر ، سواء كانت صادقة أو مزيفة . النقد هدف سام وقيمة أدبية عالية مهمتها أن ترتقي بالعمل الإبداعي وتثري تجربة الشاعر والشعر على السواء .
هو ايضا ليس قراءة عابرة لا تنفذ لما تحت السطح ، بل اعمق بكثير، وليس تفسيرا وتأويلا وإنما أداة لاستخلاص واكتشاف ما يعجز القارئ العادي عن الوصول إليه . هو يد بصيرة تعمل على توسيع مستودعات الطاقة لدى الشاعر وتوليدها وليس قتلها وطمرها . النقد مرشد ودليل مهمته ان يصل بنا لمنابع الجمال الخفية ويضع أيدينا عليها ، لا أن يحول كتاباتنا إلى أوراق جافة أو فرصة سانحة تجهض عمل أحد أو تمتص رحيقه ، بحيث تدفعه الى الحذر الزائد والسير بخطوات مرتبكة خائفة ،
نتيجة ما يضعه النقد من قيود . لن يتحرر الشعر والشاعر ويتنفسان بعمق وصفاء ما لم يشعرا بالحرية التامة ، وبالمقابل لن تقفز النصوص بعيدا في فضاء الإبداع ، ولن تحلق منطلقة في سمائه مالم يكن الشعر والنقد كجناحي طائر يتعذر عليه الطيران السليم بدونهما معا ، لابد من اتحادهما سوية ، وفي تصوري بأن معظم الشعراء لا يقبلون بالنقد ، حتى لو كان هذا النقد موضوعيا وهادفا ، وربما نجد لهم بعض العذر كون بعض النقاد يتعاملون مع الشاعر كاسم لا كنص مجرد . أخيرا ، ماهي المرحلة التي يجب أن يتخطاها الشاعر والناقد معا للتحضير والحضور على مائدة واحدة. ما الذي يجب أن يخضع له الشاعر والناقد لنجاحهما معا .
كيف للعطاءات المبدعة ، شعرية كانت أم نقدية ، أن تتصدر المشهد دون أن يكون لاسم كاتبها أهيمته وحضوره الطاغي . في المقابل ، متى لا يكون الاسم هو السبب فقط للتقليل من قيمة نص ما ،أو تحقيره وازدراءه . كيف نتجاوز أزمة الأنا وسلطة المكانة وكيف نعالج الأبعاد الهامة في الساحة الشعرية دون أن نخلق أجواء مليئة بالتوتر والمشاحنات مجرد تساؤلات ملحة رصدتها بتجرد وخلال فترة قصيرة قضيتها في ساحة الأدب الشعبي أطرحها بين أيديكم . آملة أن تكون مدخلا لركض حثيث تتحرك به المياه الراكدة . وهذا يكفي.