رؤية : صالح الصخري
يحاول عبد الله البكر في قصيدته (تجاهلت الوداع) أن يجعل سمة خطابه الشعري تميل إلى النزعة الدرامية التي لا تُفقد القصيدة الجانب التخييلي والتصويري, بل تجعلها أكثر تماسكاً حفاظاً على مقومات العمل الشعري ،وبما أن (السرد أداةٌ من أدوات التعبير الإنساني) فإن البكر يهيء من خلال قصيدته المجال ليبني عالمها الخاص فيرسم أحداثها ويطورها بشكلٍ محبوكٍ جيداً يتناغم مع بنائها والبيئة المحيطة بها.يقول:
ذعــاذيــع الـشـمـال بـعــز ليــلـي هـــزت الشـبـاك
تبـي تـطـرد هـواجـيـس الغيـاب وتـقـطـع أحــلامـي
برد صدري وأنا (أشهق) من لقاك و(أزفر) بفرقاك
ترى مـــا أقســى من غــياب الحبايـب..غيـر أوهامـي
نبت بأرض السنين المجدبة حبك..وصـرت أهـواك
رضـيـت آعيــش بـآجـمـل ذكـرياتـك بـاقـي أيــامـي
يستخدم الشاعر الفعل الماضي بشكلٍ كبير في هذا المقطع ليضفي صبغة النسج الحكائي والسردي مما يجعل النص مهيئاً للتطور مع كل بيتٍ جديد.يقول:
حبيبي لو لقيت اللـي تبـي مـن هالحيـاة..هنـاك
أنــا باقـي(هنـا) ليـن الليالـي تزهـق آلامــي
على بابك وقفت أمـس أبتسـم لـك كنـي أترجـاك
تعيـد اللـي سرقتـه مـن هنـاي إن كنـت قدامـي
مشينـا مــــن زمـان .. وقـــدر الله ينتهـي ممشـاك
على درب الغياب .. وخطوتك أسـرع مـن أقدامـي
تجاهلت الوداع .. وقلت لك : ياصاحبي وش جاك ؟!
ترش الماء على رمضى الطريق..وصاحبك ضامي!!
يحاول البكر في هذا المقطع المعتمد على النسج الحكائي الممزوج بالواقعية والجمالية والتي ترتكز على التناسق الصوتي مع بحر الهزج (الشيباني) بالإضافة لسلاسة التناغم بين مبنى القصيدة وأجزاء الحكاية فيها ،فالشاعر من خلال ذلك لا يبحث عن السرد من أجل السرد فقط ,بل يتخذ منه أداةً يبني من خلالها نصّاً شعرياً جمالياً يتفاعل معه القارئ بوصفه نصّاً إبداعياً غير مسبوق.يقول:
حنين اللي نقش اسمك علـى صـدري وخـلا شفـاك
تهجـا مـا يـدور بداخلـي مـن جرحـي الـدامـي
جمعني بالورق قصة وفاء..عاشـت علـى ذكـراك
طمست اسمك من أوراق القصيد..وصرت بإبهامي!
أنا الوافي علـى كثـر الذنـوب اللـي تبـي أنسـاك
تحزمـت الـوداع..وشلـت لـك تذكـار بحزامـي
فمـان الله .. رح فـج الغـيـاب ولــوح بيمـنـاك
أبرسـم صورتـك فـي داخلـي وأحييـك بإلهامـي
جمعنا ماضـي الحـب الحقيقـي يـا عسـاي أفـداك
أبيـك تطمـن رمـوش السهـر وتقـولـه نـامـي
فزع بعض القصيـد بهاجسـي مـن هـزت الشبـاك
كتبت آخـر تفاصيـل اللقـا..وانقطعت أحلامـي
في المقطع الأخير من القصيدة يتخذ البكر من المشهد الوصفي طريقاً ينهي من خلاله النص ،فهو قد طمس اسم محبوبته من الورق لكنها ما زالت حبيسة صدره وإبهامه وحزامه،فهو يودعها(تحزمت الوداع،فمان الله رح فج الغياب،لوح بيمناك) كل تلك الدلالات يطلقها العاشق لنلتقطها حكايةً مشوبةً بالخيبة والألم،لكن رغم ذلك لا يقف الحب عند حد,بل يخرج الشاعر من إطار خيبته بوداع محبوبته قائلاً:
(أبرسم صورتك في داخلي واحييك بالهامي) معللاً ذلك بقوله:
جمعنا ماضـي الحـب الحقيقـي يـا عسـاي أفـداك
أبيـك تطمـن رمـوش السهـر وتقـولـه نـامـي
وفي البيت الأخير يقوم الشاعر بإعادة ملامح البيت الأول ليقفل باب حكايته :
فزع بعض القصيـد بهاجسـي مـن هـزت الشبـاك
كتبت آخـر تفاصيـل اللقـا .. وانقطعت أحلامـي
ومن هنا نجد أن البكر استطاع من خلال قصيدته جعل الشخصية تتفاعل مع الحدث والمكان موظفاً الوصف لكشف مواطن الغموض في حكايته راسماً لوحةً من الرؤى ليؤلها القارئ بحسه الذوقي والفني.