المنبر

الورقة الأخيرة

أحس بحبات العرق تندي جبينه وبخفقات متتالية في قلبه رغم أن البرق ومض عدة ومضات أضاءت غرفته من بعيد وتبعه هزيم رعد جعل السماء تهب الارض كل ما اختزنته..فأسرع وتكور في سريره وأغمض عينيه عسى ظلمة الليل ترحمه وتغفو معها جفونه ويستسلم لأجمل الأحلام التي يتمناها
لكن قوة الرياح وصفيرها الذي لا يهدأ جعل نافذة غرفته الغير محكمة بإغلاقها تفتح على مصراعيها ليتسرب تيار هواء بارد جعل ساقيه تتخلى عنه ..وأنامله تغلق على الكف وتخاصمه.. والصقيع يلتحف أنحاء جسده فارتعشت أوصاله …واندفع مسرعاً ليقوم بإغلاقها لترد له روحه ويعود النبض لوجنتيه والحياة لدورته الدموية ثم مشى مسرعاً الى باحة مطبخه ليعمل لنفسه كوباً من الشاي يرد لأنفاسه الدفء ويعيد القوة لجسده بعد أن بات هزيلا من نسمات البرد القارصة
عاد واندس بفراشه وبدأت يمناه تحرك عقرب المذياع يمنة ويسرى حتى استقرت على صوت ام كلثوم وهي تغني رائعتها الاطلال فارتشف من كوب الشاي رشفة وهو يردد الله عليك يا ثومة ثم عاوده الحنين لذاك اللقاء مع اروع فتاة سرقت قلبه دون استئذان وسلبت عقله بخفتها ودلعها حتى سيطرت على كيانه وباتت حلم من أحلام حياته وبسرعة أمسك ورقة وقلماً ووضع نظارته ذات العدسات البيضاء صغيرة الحجم على عينيه ليرسم حروف عشق تعبرعن أحاسيسه ومشاعره التي لم يجرؤ أن يبوح بها لمعشوقته…
فقط كان يكتبها على أوراقه الخاصة.بحب وحنان مع كلمات غزل من قلب صادق بنبضاته..أنت يا حبيبتي الهواء الذي أتنفسه والشمس المشرقة بحياتي والمطر الذي يروي روحي ..أنت التي تعيشين في عيناي وفي قلبي ودمي و انت السعادة التي حلمت بها طويلا وتمنيتها أن تكون لي بعد أن عشت عمري الطويل ولم يطرق الحب بابي ولم يعرف طريقه الى قلبي ولم يجرؤ على البوح بما يعاني وبأن شوقه للزواج يضطرم يوما بعد يوم ولكن الامل بات سراباً بعد مضي خمسون عاماً من العمر وبعد أن غزا الشيب رأسي مخلفا مناطق ما زالت تعتز بالصورة الجميلة للشباب الذي كنت عليه حتى لحيتي البيضاء التي يتمسك بها بعض السواد لم ترحمني لتعبر عن عمري وسني…خمسون عاما انتظرت هذه اللحظة وعندما وجدتها كان قطاري يسرع بالعمر وقطارك في عز الشباب فكيف سيلتقيان
أعرف أن الزواج منك مستحيل ولكن هل تشاركيني أحاسيسي وعواطفي على الورق ونعيش معاً في دنيا الخيال دنيا كلها أحلام وأمال فالحب شئ رائع وجميل عندما نعلم أن هناك شخص ينتظرنا نحبه ويحبنا وأننا كل ما يتمناه في عمره
سقطت الدموع من عينيه التي تقطران شوقاً لمن هام القلب بحبها وتناول لفافة التبغ بيد مرتعشة وسحب منها نفساً عميقا ومعها الشاي الذي فترت حرارته مثلما فترت اماله في تحقيق حلمه بالحب الذي تمناه والذي أتى متأخراً ثم كور الورقه ورماها في سلة المهملات كما يفعل كل ليلة واليأس والإحباط تساوى عنده بعد أن فقد الطموح والأمل في التقرب منها
بدأ جسده يرتجف وشعر بارتفاع درجة الحرارة وان العمر يلوح له بيديه فاستلقى فوق سريره مهزوما يائسا …خمسون عاما قضيتها بالبحث عنها وعندما وجدتها كان العمر قد مضى مع ورقتي الاخيرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *