د. إبراهيم علوش
لم يسبق لأمريكا أن عاشت علاقة مالية مع أية دولة أخرى مثلما هو الحال مع إسرائيل، ويكشف حجمَ هذه العلاقة تقريرٌ للكونجرس الأمريكي صدر في السادس من شهر يونيو 2003 حول المساعدات الأمريكية لـ\"إسرائيل\". نحاول أن نخرج منه بخلاصات للقارئ العربي. فمنذ عام 1976 ودولة العدو أكبر متلقٍ للمساعدات الأمريكية سنويا، وهي أكبر متلقٍ للمساعدات الإجمالية الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية. هذه المساعدات بلغ إجمالها حتى الآن أكثر من 90 مليار دولار، لا تدخل فيها ضمانات القروض والتبرعات الخاصة والإعفاءات الجمركية والتسهيلات المصرفية وعائدات السندات، وكلها بنودٌ لا تحسب مساعدات رسمية، ولكنها تصل إلى عشرات إضافية من مليارات الدولارات.
نوعان.. دورية وطارئة
والخلاصة الأولى حول المساعدات الأمريكية لـ\"إسرائيل\" هو انقسامها إلى نوعين: دورية وغير دورية (أو طارئة).
أما الدورية فأبواب ثابتة تتكرر كل عام، مثل المساعدة العسكرية والاقتصادية وتوطين المهاجرين، وهذا الجزء هو المقصود عندما يقال خطأ في إعلامنا العربي: إن المساعدات الأمريكية لـ\"إسرائيل\" تبلغ أكثر من 3 مليارات دولار سنويا، والصحيح هو أن الدورية لا تشكل إلا جزءا من مجموع المساعدات، التي لا تشكل بدورها إلا جزءا من مجموع التحويلات الأمريكية إلى دولة العدو. أما المساعدات غير الدورية أو الطارئة فتأتي خارج النص، وإليكم أمثلة منها:
-حوالي مليار دولار مع العام 2001 لتطوير ونشر صاروخ \"أرو\" المضاد للصواريخ، وهناك حديث عن قيام أمريكا بشراء بطاريات من هذا الصاروخ من \"إسرائيل\" بعد أن تم تطويره بأموالها..
-139 مليون دولار لتطوير نظام الليزر المضاد للصواريخ الداعم لصاروخ \"أرو\".
-1.2 مليار دولار لتمويل انسحاب \"إسرائيل\" من الضفة وغزة على خلفية اتفاق \"واي ريفر\" المعقود في عام 1998، مع أن حكومة العدو علقت تنفيذ هذا الاتفاق عام 1999، أي قبل بدء الانتفاضة الثانية… وهكذا.
شروط المساعدات
الخلاصة الثانية هي أن المساعدات الأمريكية لـ\"إسرائيل\" تتم بشروط غير متيسرة لأية دولة أخرى في العالم. فالمساعدة مثلا تُعطى نقدا للحكومة \"الإسرائيلية\" دون أن تحتاج لتقديم أي تفسيرات حول كيفية إنفاقها، حتى إن بعضها -حسب تقرير الكونجرس نفسه- يذهب لشراء سندات وزارة المالية الأمريكية مما يعود على \"إسرائيل\" بالفوائد المجزية. وقد سمح باستخدام جزء من المساعدة العسكرية بنفس الطريقة ابتداءً من عام 1990. كما أن دولة \"إسرائيل\" وحدها تحصل على كامل قيمة المنح المخصصة لها في الشهر الأول من السنة المالية، مما يكلف الحكومة الأمريكية ملايين الدولارات من الفوائد، بينما تأخذ الدول الأخرى منحها على 3 أو 4 دفعات على مدى العام. وبالرغم من ذلك فإن \"إسرائيل\" -المتلقي الأكبر للمساعدات الأمريكية- تستفيد من عدم انطباق القوانين عليها كي تستثمر منحها في السندات الأمريكية لتجني فوقها فوائد خيالية، وهو الأمر الذي دفع أمريكا مؤخرا إلى تأجيل القسم الأصغر من المنحة لـ\"إسرائيل\" بعد الشهر الأول! أضف إلى ذلك أن \"إسرائيل\" وحدها من بين الدول هي التي يُسمح لها بسحب المنح قبل القروض، بينما على الدول الأخرى أن تسحب المنح والقروض على قدم المساواة، مما يقلل الفوائد البنكية التي تدفعها دولة العدو، لأن القرض لا يبدأ حساب الفائدة عليه إلا بعد سحبه.
المساعدات العسكرية
أما عن المساعدة العسكرية فحدث ولا حرج، إذ يفترض أن تذهب بالكامل لشراء الأسلحة من الشركات الأمريكية، وهو الشرط المفروض على الدول الأخرى، أما \"إسرائيل\" فتستطيع استخدام جزء من المساعدة العسكرية الأمريكية لشراء أسلحة \"إسرائيلية\"، لا بل إنها تلقت عام 1990 ما يعادل 700 مليون دولار لشراء أسلحة أوروبية غربية، هذا فضلا عن أن كل دول العالم المتلقية للمساعدة العسكرية الأمريكية عليها أن تدير مشترياتها من الشركات العسكرية الأمريكية من خلال وزارة الدفاع الأمريكية إلا \"إسرائيل\" التي تتعامل مع الشركات الأمريكية مباشرة دون الحاجة إلى تقديم كشف بما اشترته إلى البنتاجون.
ضمانات القروض
ولا تقتصر الأمور على ذلك، فبعد أسبوع بالضبط من سقوط بغداد، بينما كان الشارع العربي مشدوها لهول ما يجري، وقع الرئيس جورج بوش يوم 16 أبريل 2003 قرارا بمنح \"إسرائيل\" 9 مليارات دولار من ضمانات القروض، ومليارا من المساعدات العسكرية الإضافية. وتأتي هذه التحويلات الأمريكية الجديدة لـ\"إسرائيل\" على هامش المساعدات الدورية (أكثر من 3 مليارات في العام) وغير الدورية (تتراوح من عامٍ إلى آخر).
وكان شارون قد طلب من بوش -عند لقائهما في أكتوبر 2002- 8 مليارات من ضمانات القروض إضافة إلى 4 مليارات من المساعدات العسكرية الإضافية لمساعدة اقتصاد \"إسرائيل\" المنهار وللقيام بأعباء مواجهة الانتفاضة، فجاء توقيت الرد بعد سقوط بغداد بأسبوع على شكل 9 مليارات من ضمانات القروض توزع على 3 سنوات، ومليار إضافي من المساعدات العسكرية، ربعه \"كاش\" وثلاثة أرباعه مشتريات أسلحة أمريكية، إضافة إلى المساعدات الدورية التي تتضمن أيضا بنودا عسكرية. وضمانات القروض هي قروض تجارية من البنوك الأمريكية تكفلها الحكومة الأمريكية على نفقتها الخاصة، أو بالأصح على نفقة دافع الضرائب الأمريكي. فإذا تخلفت حكومة \"إسرائيل\" عن الدفع، تحملت الحكومة الأمريكية المسئولية. وهي على كل حال قروض دون تكلفة رأسمالية بالنسبة لحكومة \"إسرائيل\" لأن الحكومة الأمريكية تضع من موازنتها جانبا 4% من قيمة القرض التجاري ككفالة، ولذلك تسمى ضمانات قروض، ولكن \"إسرائيل\" في الواقع تحصل على القرض كاملا.
فلو افترضنا مثلا أن قيمة القرض من البنوك الأمريكية لـ\"إسرائيل\" هي 10 مليارات، فإن \"إسرائيل\" تحصل على العشرة كاملة، بينما تضع الحكومة الأمريكية جانبا 400 مليون دولار ككفالة، وهكذا.
القروض أفضل
وابتداءً من أواسط السبعينيات لم تعد المساعدات تكفي لإعادة التوازن للاقتصاد الإسرائيلي فبدأ تدفق القروض التي تدعمها الضمانات الرسمية. وكان أولها ضمانات لـ 600 مليون دولار من القروض لتشييد المنازل بين عامي 1972 و1990، ثم ضمانات الـ 5.5 مليارات من القروض التجارية لإعادة تمويل القروض العسكرية الإسرائيلية من أمريكا بفوائد أدنى، ثم ضمانات أكثر من 9 مليارات من القروض لتوطين اليهود السوفيت بين عامي 1993 و1997، وأخيرا تأتي ضمانات الـ9 مليارات التي قدمها بوش للكيان في 17 أبريل 2003 لإنعاش الاقتصاد الإسرائيلي الذي يمر بأزمة طاحنة منذ انتفاضة الأقصى سبتمبر 2000. وبالمناسبة، فإن القانون الأمريكي يشترط سقفا من 25 مليون دولار للدولة الواحدة كضمانات قروض، وأن تُستخدم القروض المضمونة للدول الأخرى لبناء مساكن الفقراء، وأن تدفع الدول المعنية رسوما محددة لسحب قروضها، ولكن هذه الشروط القانونية الأمريكية كلها تم خرقها من أجل عيون \"إسرائيل\"!
ويفترض شكليا ألا تنفق \"إسرائيل\" شيئا من القروض المضمونة في الضفة الغربية أو غزة، وإلا فإن الرئيس الأمريكي يحق له أن يخفض القروض بقيمة ما ينفق على الاستيطان في الضفة وغزة. وقد حجب الرئيس بيل كلينتون 1.36 من أصل الـ10 مليارات الممنوحة لتوطين اليهود السوفيت بين عامي 93/97 لهذا السبب، ولكن 600 مليون دولار من هذه الأموال المحجوبة أعيد لـ\"إسرائيل\" \"لأسباب أمنية\"، ولم يؤثر الحجب بشيء في النهاية؛ لأن دولة العدو لم تسحب إلا 6.6 مليارات من هذه القروض! وتفضل \"إسرائيل\" القروض على المساعدات لتجنب الإشراف الأمريكي -ولو شكليا- على إنفاقها. ولذلك تم تحويل 45 مليارا من المساعدات الأمريكية لـ\"إسرائيل\" بين عامي 1974 و2003 على شكل قروض غير مستردة!
لذلك، لم تتجاوز ديون دولة العدو الرسمية لأمريكا ملياري دولار عام 2001. أما الحكومة الأمريكية فكانت مدينة للبنوك الأمريكية بما يعادل 12.5 مليار دولار لحساب \"إسرائيل\" بفضل نظام ضمانات القروض!
وليس كل هذا بكثيرٍ على \"إسرائيل\" التي تخرق -دون مشكلة تذكر- القانون الأمريكي الذي يمنع نقل المعدات العسكرية المقدمة كمساعدات إلى طرف ثالث إلا بموافقة أمريكية. وفي عام 1992، جرى تحقيق حول نقل تكنولوجيا صواريخ الباتريوت إلى الصين لم يخرج بشيء، أما عام 1982، فقد شهد مسئولون أمريكيون أمام الكونجرس أن \"إسرائيل\" نقلت أسلحة لجيش لبنان الجنوبي دون أن يتبع ذلك تحقيق.
تطور نمو المساعدات
لم تصل المساعدات الأمريكية للعدو للمليارات إلا مع السبعينيات، مع أن خطها العام كان دوما التزايد بصورة متزايدة وصولا إلى حالة النمو الانفجاري مع بداية الثمانينيات، أي بعد توقيع معاهدة كامب ديفيد مع مصر.
وكانت القفزة النوعية الأولى عام 1966، تبعتها قفزة نوعية عظمى عام 1971 بعد سيطرة أنور السادات على زمام الحكم. ومع عام 1981، أصبحت \"إسرائيل\" تستلم كل المساعدة الاقتصادية على شكل \"كاش\"، وفي عام 1985، أصبحت تستلم المساعدة العسكرية أيضا هكذا. وشهدت التسعينيات مرحلة النمو الانفجاري في ضمانات القروض الأمريكية، خاصة لتوطين اليهود السوفيت، مما جاء كصفعة إحصائية على وجه المحللين العرب الذين أوهموا أنفسهم بعد عامي 1990/1991 أن الأهمية الإستراتيجية لدولة العدو ستقل مع انهيار دول المعسكر الاشتراكي، فنظّروا للتسويات السلمية على هذا الأساس.
تعارضات أحيانا
وقد يفسر البعض النمو الانفجاري للمساعدات الأمريكية للعدو أساسا من خلال تزايد نفوذ اللوبي اليهودي/ الصهيوني في أمريكا. لكن هذا العامل -على الرغم من أهميته- لا يفسر منع الرئيس الأسبق أيزنهاور المساعدات عن دولة العدو عام 1953 بسبب مشروع مائي إسرائيلي على الحدود مع سوريا، ولا يفسر أيضا وقف شحنات القنابل العنقودية عام 1982 لاستخدامها في اجتياح لبنان، كما لا يفسر وجود بند في قرار ضمانات القروض لعام 2003 ينص على أن يأخذ الرئيس الأمريكي بعين الاعتبار مدى قيام \"إسرائيل\" بالخصخصة وتقليص حجم القطاع العام. ولا شك أن الكثير من هذه الإجراءات تنم عن تعارضات ثانوية بين أمريكا و\"إسرائيل\"، وكذلك عن وعي أمريكا بالحاجة إلى تلميع صورتها العربية بما لا يتعارض مع التزامها الثابت مع دولة العدو، وربما عن دور وتأثير اليمين الإسرائيلي (مثل وزير المالية الحالي بنيامين نتنياهو) في استخدام المساعدات الأمريكية ضد حزب العمل في ضرب القطاع العام الإسرائيلي.
مستقبل المساعدات
غير أن ذلك كله لا يجعل أمريكا طرفا بريئا أو مخدوعا في هذه المعادلة، كما يوحي موقف القائلين بأن تصاعد المساعدات يعود أساسا لتصاعد نفوذ اللوبي اليهودي في أمريكا، بل هي طرفٌ واعٍ حتى لتعارضاته الثانوية مع الكيان الصهيوني في الوقت الذي تغدق العطايا عليه من أجل تحقيق مصالحها الإستراتيجية في المنطقة.
وعلى أية حال، بينما كانت أموال القطاع الخاص الأمريكي أساسا تتدفق بالمليارات إلى الكيان الإسرائيلي في القسم الثاني من التسعينيات على شكل استثمارات أجنبية مباشرة، خاصة في قطاعي التكنولوجيا والاتصالات، وهي مليارات لم يتم الحديث عنها قط في هذا الموضوع .. فقد بدأ في عام 1998 بشكل متفق عليه مع دولة العدو تخفيض المساعدة الاقتصادية الأمريكية 120 مليون دولار في العام على أن تصل إلى صفر مع حلول عام 2008، وعلى أن تزداد بالمقابل المساعدات العسكرية 60 مليون في العام حتى تصبح وحدها 2.4 مليار مع العام 2008. ونعيد التذكير هنا بأن الحديث يدور حول المساعدات الأمريكية الدورية للكيان، وليس المساعدات غير الدورية أو ضمانات القروض أو تبرعات واستثمارات القطاع الخاص. إذ يبدو أن التوجه الجديد هو تحويل المساعدة الاقتصادية لعاتق القطاع الخاص من خلال الاستثمار وضمانات القروض والتبرعات على أن تزداد المساعدة العسكرية التي تتحمل عبئها الحكومة الأمريكية. فإذا أدى تصاعد الانتفاضة مثلا إلى انخفاض منسوب الاستثمارات الخاصة، تدخلت الحكومة الأمريكية لتأمين ضمانات القروض لدولة العدو من البنوك الأمريكية كما حدث في 16 أبريل 2003. وذلك يظهر في الحالتين مدى ارتباط أمريكا بالعدو الصهيوني، ليس فقط على الصعيد الرسمي، بل أيضا على صعيد الشركات متعدية الحدود التي أصبحت تلعب منذ التسعينيات دورا مركزيا في دعم الاقتصاد الإسرائيلي ماليا وتكنولوجيا. فأمريكا و\"إسرائيل\" طرف واحد، تربطهما المصالح الإستراتيجية وعداؤهما للعرب، وهذا ما لا يجوز أن يغيب عن ناظرنا أبدا.