رؤية- ماجد الغامدي
المناجاة هي غذاء روح العاشق وسلوة المُحب فتجده ينادي حبيبه القريب ويناجي هواه الغائب ،يتغنّى بعشقه الحاضر ويتمنّى هواهُ الغائب،وفي شدّة الولع ومرارة الفقد تتفجّر الأسئلة وتتلظّى مواقد الوجد وإن لم تُسعف المُحب لذّة البوح فإنّه يستبقي شيئاً من ذكرى غرامه(هجراً أو بعداً أو فراقاً).يقول الأديب الشاعر الدكتور فاروق شوشه:
يا غائبـاً لا يغيـبُ
أنتَ البعيدُ القريبُ
مهما تَغِب عن عيوني
فأنتَ أنتَ الحبيبُ
فإن غاب فلا زال حاضراً بذكراه الجميلة وطيفه العذب فهو البعيد القريب كما يقول ابن الرومي:
أنت في القلب و أبعد من نجمِ الثريّا
فـأنـتَ القـريـبُ البعـيـدُ
يبقى أمل المُحب بين رجاء القُرب ويأس البعد وإحباط المآسي وينتقل بين كاف الخطاب وهاء الغائب..!
وين انت يا وجهٍ وقفت آتحرّاك
بين الوجيه الراحلة والمقيمة
تتعدّد الوجوه وتتنوّع المحاسن ولكن العشق يبقى متأصلاً ثابتاً لا يغريه عشقٌ جديد ولا طيفٌ عابر.!قلتُ في مثل ذلك لا أرى الحُسنَ في سِواكِ جديراً
لستُ أرجو سواكِ في الحبِ إلفا
مَن يساويكِ ؟!.. لا تدانيكِ أُنثى
أنتِ يا فِتنتي تساويـنَ ألفـا !
****
وإلى بيت مشعل الفوازي مرّةً أُخرى ..
وين انت يا وجهٍ وقفت آتحرّاك
بين الوجيه الراحلة والمقيمـة؟
وقفت آتحرّاك../ وقفت آتحرّاه !!إن المسافة بين كاف الخطاب وبين هاء الغائب رحلة نفسية يقوم بها الكاتب شاعرا أو ناثراً راضيا أو متحسّراً :(وقفت أتحراك)،(وقفت أتحراه).والشعر أوالكتابة انعكاس للحالة التي تعيشها حواس الشاعر أوالكاتب،
وليست شرطا من شروط انطباق الواقع القائم صحيحا أوخطأ؛ من حيث إن معيارية الخطأ والصواب ليست قائمة في الحكم على العمل الأدبي أوالفنيّ، فإن المعيار الذي يمكننا الدخول من خلاله هو ما يسمى بالنقد المتعاطف الذي يتيح لنا أكبر قدر ممكن في تعرف حالة الكاتب وأسباب كلماته واختياراته الفكرية واللفظية والروحية.
أداة النداء الراسخة في سقف البيت لها بعدان:النائي: ولعله يشبه ما نراه ضميرا للغائب!كالنائي:ولعله يشبه ما يمكن أن نقول إنه مخاطب!ولكنه يحمل في طياته حكم الغائب (الغافل)أو(السالي)فالمحتمل هنا أنه (المخاطب) قد يكون موجوداً أمامنا،
ولكن فكره ووعيه وروحه المتآلفة ونظرته المعروفة، كل ذلك غائب عن الحضور! فيكون من الممكن أن نبذل له ضمير الغائب كذلك.(يا وجه) تلك الحدود التي ترسم البعيد والقريب والغائب والمخاطب في آن واحد.
لكنه يكون مخاطبًا ناقصاً! مخاطبًا غير كامل! مخاطبًا غائبا أو غائبا مخاطبًا! إن مقاييس الفن لا تتوقف عند حد معين، ولذا يجوز للشاعر ما نسميه بالضرورات الشعرية، لأنه قبل أن ينقل معنى فكريّا فإنه يصور مشهدا نفسيا ورحلة يمتزج فيها الوعي باللاوعي! وهذا المشهد يكون متعدد الأبعاد ليس له ثوب محدد في الخارج اللغويّ ذي التشكيلات المحدودة، وإنما أبعاد لها كيانها الجديد جدّة الإحساس الإنساني مهما تشابه بين الأشخاص في جانب من الجوانب.
السؤال عن الوجه! والسؤال موجه للوجه! يتساءل في نفسه ويسأل وجه ملهمته أم أنه يسأل الوجه الحاضر عن الوجه المأمول !!فالوجه هنا حاضر إما في نفس الشاعر، فيكون الخطاب للبعيد مكاناً القريب روحًا وفكرةً! وإما حاضر في عينيْ الشاعر؛ فيكون الخطاب للقريب مكانًا، البعيد روحًا (أي: ذلك الأخذ الشديد في وجه المحبوب لم يعد كذلك، والروعة والدهشة والجمال لم تعد شيئا ذا بال حين ننظر إليه،
لعل المحبوب تغير إلى شخص آخر لدرجة أن محبَّه حين ينظر إليه يحس بغربة وجهه وكأنه وجه آخر! فيكون السؤال هنا للوجه عن روحه، وليس عن الوجه نفسه بملامحه وذاته الشكلية.