استجواب الأرشيف

الفارق بين زمنين

يعدها : علي محمد الحسون

•• أذكر في عام 1388هـ قبله أو بعده كنا مجموعة من الأصدقاء نتناول عشاءنا في ذلك المقهى الذي يقدم طعام “السمك” غير العادي طعماً ومذاقاً في ذلك المكان الذي يبعد عن المدينة المنورة حوالى 150 كيلو متراً على الطريق بين المدينة وجدة.. أقصد بذلك قرية “بدر” عندما لمحت أحدهم وهو يدور بين المراكيز في المقهى.. حاملاً لوحاً خشبياً وعليه بعض الحلويات والباسكويت واللبان ليبيعها على زوار المقهى عندها تنبهت عند حاسة اجراء حوار معه، وكنا في زمن مضى نقدم في الجريدة التي كنت أعمل بها زاوية اسبوعية اسمها وجه من الشعب نقدم فيها شخصية لها لونها.. ورحت أطرح عليه بعض الأسئلة عنه وعن حياته، وكيف هو يعيش، وكم عمره، وهل لديه أبناء.. فكان أن أجريت معه هذا الحوار والذي لا أذكره كاملاً:
قلت: أسمك ياعم؟
قال بعد ان نظر إلي بعينين بدتا ذابلتين غطاهما حاجبان كثيفان: اسمي محمد.
قلت: كم عمرك يا عم محمد؟
وضع اللوح الذي كان يحمله على طرف الكرسي الخالي وقال: بعفوية صادقة كثير.. كثير ياولدي.
قلت: يعني ستين؟
ضحك.. ضحكة أحسست انه يسخر من تقديري للسنين التي عاشها قال: ياليت أنا الآن في حدود التسعين..
قلت: هل أنت من هذه “القرية”.
سريعاً قال: نعم.. ولا.
قلت: كيف كنت تعيش أو تعيشون في هذا المكان؟
فجأة لمحت كأن عينيه تنديان.. صمت طويلاً..
قلت كأني أسرعه في الاجابة..
قال بعد أن أزاح ما يشبه الدمع من عينه: الله يرحم ابن سعود ذلك الصقر عبدالعزيز الذي غرزها, وفتح ما بين أصابعه، ومن ثم قبضها لقد كانت أيادينا مفتوحة.. ولكنه غرزها وضمها علامة “غرزها”.
قلت: لم أفهم ماذا تقصد؟
قال: قبل عبدالعزيز هل تستطيعون أن تجلسوا هنا أو تقطعوا الطريق وأنتم آمنون؟
قلت: كيف؟
قال: لقد كنت قبل أن آتي لأعيش كنت هنا في احدى القرى على هذا الطريق كنت يافعا شابا مفتول العضلات، وكنا نقوم باعتراض الحجاج.. الذين يقطعون الطريق بين مكة والمدينة.. وصمت ولم يزد كل الذي فعله ان رفع لوح – بضاعته – واعطاني ظهره ومضى.. دون أن يجعلني أكمل الحوار معه.
لقد كانت دموعه مطراً يغسل كل وجهه.. إنه الفارق بين زمنين.. زمن الخوف والرعب.. وزمن الأمن والأمان..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *