أرشيف صحيفة البلاد

العلا : التاريخ تحت أشعة الشمس

العلا – البلاد
فيما كنا على تخوم مدينة العلا وفيما كانت روائح التاريخ تعج في فضاء المدينة طاف بنا جميل بثينة وحالة الحب العذري فرددنا:
ألا ليت شعري هل ابيتن ليلة
بوادي القرى إني إذاً لسعيد
خيل إلينا ولهيب الشمس يصافح وجوهنا في موطن الحب العذري المثول بين يدي جميل بثينة لنسترجع ذكريات ماضي حب دارت أحداثه على سفوح جبال العلا وفي بطون أوديتها الممتدة من الجبل إلى الجبل وعلى ثرى مدينة تتنفس التاريخ وتزخر بعبق الماضي وتتربع على قمة الآثار .
كثيرة هي الأساطير المنسوبة إلى أجيال اندثرت قبل قرون ومن يدري فقد تصبح حياتنا أسطورة لأجيال قادمة لكن التاريخ الموثق يؤكد مكانة وقيمة العلا والآثار الشاخصة تنثر العبر وتؤصل المكان وتتحدث عن قدرة الخالق وتكيف المخلوق فقد تشعر الأجيال القادمة بصعوبة حياة جيلنا رغم رغد العيش ولله الحمد قد يعتقدون بأن مجالسنا الحالية أكثر ضيقاً من رؤيتنا لمجالس أسلافنا على سبيل المثال.
في العلا تصحو مبكرا فتجد التاريخ تحت أشعة الشمس
إذن نحن بالعلا أمام التاريخ وجهاً لوجه.. فكل الأشياء هنا توحي إلى أنك تعيش مرحلة ما ليست بالطبع عصرية بل تضرب شواهدها أعماق التاريخ وأغلب هيئاتها قبل الميلاد بالتأكيد.
وعندما ملأت شمس الصباح كهوف الجبال الشامخة كانت عيوننا تصافح حضارات متعددة.. مملكة ديدان – مملكة لحيان – دولة معين – دولة الانباط.. مرحلة بداية الإسلام والمرحلة الإسلامية المعاصرة.
من اين نبدأ لسبر اغوار التاريخ.. لم يمهلنا الوقت للتفكير للإجابة على السؤال فانطلق بنا مرافقنا نحو اطلال جميل بثينة.. يا لهذه المصادفة..!!
تساءلنا ببراءة أبناء الجيل.. كيف كان الناس يعيشون في هذا الحي القديم الشاخص للعيان فتذكرنا حديثنا عن رؤية الأجيال القادمة لجيلنا.
تجولنا داخل الحي القديم ولمسنا في البدء عظمة سكان الجزيرة العربية فالبيوت متشابهة إلى حد كبير من حيث التصميم الهندسي. الأسقف من جذوع النخيل جميعها تتكون من صالون ومخزن في الدور الأرضي وغرفتي نوم في الدور العلوي إضافة إلى بلكونة تعتلي الممر الفاصل بين البيوت.. في طرف الحي تقف قلعة موسى بن نصير شامخة محتلة الهضبة الشمالية للحي وتسمى حاليا أم ناصر إذ يعتقد أنه دفن فيها بعد وفاته على إثر عودته من الأندلس. وعند المدخل الرئيسي للحي القديم المهجور يقع مسجد العظام الذي أعيد ترميمه وسمي بمسجد العظام حسب رواية أهالي العلا لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – خط مكانه بالعظم في طريقه لغزوة تبوك..
لفت انظارنا هرم طويل كالمئذنة مبني بالحجر بعناية فائقة على مدخل الحي الرئيسي يسقط ظلاله على جدار مبنى من الحجر الملون على هيئة خطوط أفقية ويسمى هذا الهرم “الطنطورة” وهو عبارة عن ساعة شمسية تحدد ظلاله على الحجر الملون مواعيد دخول الفصول إضافة إلى مواعيد دخول أوقات الصلاة بدقة متناهية. بعض الأحجار على نفس الجدار قيل إنها تخص أشخاصاً فاذا بلغ الظل حجر أحدهم أذن لنفسه بورود الماء من باب التنظيم والترتيب وإعطاء الفرصة. وفي هذا الحي 14 مجلساً مختلفاً ومنفصلاً لشيوخ القبائل القاطنين نفس الحي الذي يحتوي على ما يزيد عن 700 منزل تتم في تلك المجال المشاورات وحل القضايا العالقة بين أفراد القبيلة وفيه دار مخصصة للمالية ودار للبلدية والشرطة وبقية الخدمات وفي المقابل هناك المزارع التي يفصل بينها وبين الحي السكني سفح جبل أصبح ممراً للطريق المؤدية إلى مدائن صالح.
وتضم العلا بين جنباتها نحو 85 عيناً جارية جفت مؤخراً منها أعين تدعل التي قيل إن الرسول صلى الله عليه وسلم شرب منها ودعا لأهلها بالبركة.
وفيما كنا نتجول في الأحياء السكنية الجديدة التي جاءت على الطراز المعماري الحديث شأنها شأن مباني مدن المملكة بفضل رعاية واهتمام الدولة بالمدن والقرى على حد سواء لفت أنظارنا تطور المدينة السريع فاشتبك الحاضر بالماضي وشكلا لوحة فنية رائعة ميزت العلا عن سائر المدن. انطلقنا إلى حيث يسكن التاريخ مناطق لآثار ضخمة فادركنا أن العلا كلها منطقة أثرية ، إذن هذه مدائن صالح وتلك آثار الخط اللحياني في الخريبة فعلى سطح الأرض آثار لشعوب اندثرت قبل آلاف السنين وتحت الأرض معالم لم تكتشف بعد إنها حضارة شعب استوطن العلا قبل بداية القرن الخامس الميلادي ثم توالت الشعوب الأخرى لاستيطان هذه المنطقة الحضارية.. تساءلنا ونحن نتجول بين تلك الآثار عن الطرق المثلى لاستثمارها واتفقنا على أن هيئة العلا التي يترأسها سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان ستحقق الأهداف فيما يتعلق بتطوير العلا واستثمارها. قال لنا بعض الزوار ممن التقيناهم لم نر في أي مكان في العالم مثل هذه الآثار الشاخصة للعيان وطالب الجميع بكثير من الاهتمام والرعاية لتلك الحضارات التي سادت ثم بادت وبقيت آثارها عبرة وتذكارا لأولي الألباب فهذه الشخوص الأثرية تؤكد قدرة الله وعظمته جل جلاله وفي رؤيتها ما يقرب العبد من ربه جلت قدرته. في محطة القطار أشلاء العربات لازالت صامدة كما صمدت أجزاء من سكة الحديد تركنا المحطة والسؤال عالق في السنتنا.. لنتساءل من جديد أي قوة تلك التي مكنت الإنسان من نحت الجبال على هذه الهيئة؟!
كيف يبني شخص منزله داخل صخرة ؟
دخلنا قصر البنت واستعدنا أسطورة الجدائل التي حملت العاشق نحو السفح لمسافة تقارب 50 متراً وتساءلنا هل كانت جدائلها طويلة إلى هذا الحد ؟
إذن نحن أمام جدار السبعة الذي ترامت أشلاؤه بين الجبل الشرقي والجبل الغربي وقد بني كغيره من الأسوار بغرض حماية البلدة حيث كان السلب والنهب متفشياً بين الناس وكان الشخص لا يأمن على نفسه وماله بعكس ما نعيشه اليوم بحمد الله من أمن وأمان وفرته حنكة وحكمة قيادتنا الرشيدة أعزها الله.
وجدار السبعة ليس الوحيد من الآثار المتبقية فهناك القلاع والحصون والمتاريس المترامية في أطراف المدينة والقرى المجاورة.
هناك عشرات الشواهد على عظمة هذه المنطقة والحضارات التي تعاقبت عليها بحكم موقعها الجغرافي الواقع على طريق الشام مكة المكرمة إذ أنها تضم بين جنباتها ثاني أكبر محطة للقطار ويفصل بينها وبين تبوك نحو 250كم ومثلها المسافة إلى المدينة المنورة.
قال فيها صلاح الدين الصفدي عندما زارها:
خرجنا نحو طيبة من دمشق
بأفئدة للقياها حرار
ولكن في العلا زدنا اشتياقا
كأن قلوبنا حشيت بنار
الحديث عن الآثار لا ينتهي في العلا تحديداً فروائح التاريخ تفوح من كل حدب وصوب والمساحة مهما فردت لا يمكن أن تفي هذه المدينة الموغلة في التاريخ حقها.
مواطنون كثر اثنوا على رعاية الدولة للنهوض بالمنطقة مشيرين إلى العديد من المشروعات الحيوية المتوجة بالإعلان عن الهيئة الملكية لتطوير العلا.؟