أرشيف صحيفة البلاد

الصهبة ..

د . زامل عبدالله شـعراوي

“لجدة ” صفو حديث طويل مع الفنون التي ارتبطت بها كمساءات حالمة تعانق فجرها الجميل ، ويسكنها البهاء والجمال واللغة البكر وتنقش لوحة غنائية فاتنة توشوش البحر وترسل صوت مجالس السمر التي اشتهرت بها حواري جدة القديمة حيث كانت تتنفس البحر والفن ، ومن هذه الفنون فن “الصهبة ” التي اشتهرت به منطقة الحجاز بشكل عام سواء في مكة المكرمة أو جدة في المقال السابق ألقيت الضوء على المجس وهنا سوف نتحدث عن “الصهبة ” هذا الفن الحجازي الجداوي الأصيل .
الصهباء في اصطلاح أهل الحجاز هي من الفنون الغنائية التراثية التي عرفت في حقبة من الزمن بـ ( الصهبة ) هكذا بالتاء المربوطة ومازال هذا العرف على ضالته موصولاً حبله بماضيه الأول في الحجاز وخاصة في جدة ومكة المكرمة ، وقد عرفت الصهبة كأحد الموروثات الشعبية القديمة التي بقيت بيننا حتى يومنا هذا ، كما أن للصهبة قوانين وآدابا واحتراما وتقديرا بين الصغار والكبار .. وللصهبة أساتذته ورجاله وأصوله وآدابه .. ومن خلال هذه المقالة سنتعرف على مزيداً من التفاصيل عن هذا الفن التراثي الجميل وعن رجاله في ذلك الزمن ، والذي نخشى على هذه الفنون من الاندثار والانقراض بعد رحيل بعض رجاله وأعمدته وأمد الله في عمر الباقين منهم لأنهم أعمدة هذه الفنون في الوقت الحاضر وهم المصادر والمراجع التي نرجع إليهما في الصهبة وهم السفن الحاملة لمادة هذه الفنون التراثية .
فرقة ” الصهبة ” وأداء الأدوار :
أولاً : نعرف الدور هو المحور الذي تجتمع حوله فرقة الصهبة ، والدور في تعريفه الأدبي هو مجموعة أبيات شعرية تضم معنى واحداً وتربط بينهما قافية واحدة ووزن واحد والبيت في الموشح يتكون من شطرين أو ثلاثة أو أربعة على حين أن البيت في الشعر العروضي يتألف من شطرين وحسب ، والدور في الصهبة لا يختلف عن هذا التعريف إلا من حيث طوله وقصره فقط أما ” الجوقة ” التي تؤدي الدوار في الصهبة فهي تتكون من ( حادي ) و ( شاووش ) و ( رد ) أو الرديدة أو المذهبية وهم اللذين يساعدون الحادي والشاووش في ترديد الغناء ، فدور الحادي أن يحدو والحادي هو السائق والحداء هو الصوت الحسن الأخاذ ، ويتقدم الحادي صاحب الموال وذلك تمهيداً للمقام الذي سيبدأ منه الغناء ، فيحدو الحادي على نم المقام بأول الدور وتسمى بـ ( المشق ) أي مشق الدور والبيت كاملة يسمى بـ( ودعة ) ويقدم الشاووش بدوره فيأخذ من الحادي مباشرة ليساعده في إيصال مشق الدور والودعة الى ( الرديدة ) وبعد أن يأخذ الشاووش من الحادي يأخذ من ( الرديدة ) فيكملون الودعة الى المحط ، وبهذا تكون ( الشيلة ) وهي مواصلة الغناء مدة من الزمن دون توقف وقبل أنهاء الشيلة تكون ( الشبشرة ) وهي علامة بقرب إيقاف الغناء للاستراحة ، والقضية كلها تكمن في الحفظ التام للحادي والشاووش والرديدة إلا أن الشاووش يطلب منه أن يكون منتبهاً يقظاً لمشق الأدوار حتى لا يخطئ الرد في أخذ الدور ، وأن يكون صوته جهورياً لكي يسمعه الجميع وقد يحدو الحادي بدور فيتقاعس الشاووش في أخذه إلا أن ( المغنوجي ) الفهيم سرعان ما ينتقل الى دور من هنا يتأكد على الشاووش الحفظ القوي الحاد وهذا الترتيب لا يختلف عن النوع اليماني إلا بالدانه التي يحدو بها الحادي ويكررها الشاووش والرد ثم الحادي بدورة يتابع الغناء ،وأيضا بضربة ( الكف ) في الزمن لا في عدد الضربات ففي كلاهما 2في 1 ضربتين ثم ضربة مصاحبة لـ ( النقاقيل ) وهي طبلتان صغيرتان يضرب عليهما بعيدان خشبية نحيلة وقد سميت بالنقاقيل لتنقل الضارب عليها ومن هذه الى هذه و( جوقة ) الصهبة في الترتيب كترتيب لعبة الشطرنج من حيث الاسم والمكان والدور والأداء فلو أختلف واحد من هذه لأختل الجميع وتزعزع ، ولأهل الصهبة – اليماني والمصري – أذواقهم الخاصة فــي اختيار الأوقات والأجـــواء المناسبة لكل نغم ، فحين بداية الغناء ( المصري) بالليل يبدؤون بالحسيني ثم – السيكا أو المايه – وفـي أيـــام المــطر يغنــــون بـ( العشاق أو الماهور ) وإذا جاء الربيع يغنون بـ ( الحجاز أو الجاركاه أو النهاوند ) وفي السفر الى المدينة المنورة أيام الركب يغنون بـ ( الركبي ) إذا حطو رحالهم للاستراحة يروحون عن أنفسهم من مشقة السفر وتعبه وفي الركب بالعشاق .
كان لكل حارة من حارات جده قديماً فرقة في الصهبة ولكل فرقة كبيرها وحاديها لا يحدو سواه لأن ذلك من العيب ومن باب الاحترام ألا يتولى الحداء غيره وهو موجود ، وأن يكون الحادي حافظاً للأدوار وأكبر مكانة من بين جماعته أنه الفن والتكتيك والاصطلاح الذي لا مشاحة فيه ، وكانت مدارس تعلم الصهبة هي الغناء في المراكيز والقهاوي والمقاعد والمناسبات .
وحارات الصهبة بجدة كانت حارة اليمن والبحر والشام والمظلوم وكانت بعض الحارات تختص بنوع معين من الغناء مثل اليماني والمصري وربما اجتمعت حارتان أو أكثر في الغناء ، وأن كان هناك شي من المناقرات التي تحصل بينهما في عملية الأداء والضرب والحفظ مثلاً أن يقدم هذا ودعة على ودعة ، أو يشق الدور من غير مشقة أو يحط في غير محط أو يشق الحادي دوراً لا يعرفه الشاووش والرد وذلك بقصد التعقيد والاختبار لكن كل هذا لا يخرج الى السوء من الفعل وأكبر ما يكون إذا اختلفوا هو أن تغني كل مجموعة على حده مع المنافسة اللطيفة .
همسة : من أدوار الصهبة نغم الحجاز :
الهوى أضنى فؤادي وبرى جسمي السقام
وتزايد بي الغرام ياترى أبلغ مرادي
وأرى بدر التمام لاح من تحت الغمام
قد وفي جفني سهادي وغدا جافي المنام
ودموعي في أنسجام
‏zamelshaarawi@