جدة – البلاد
بعد أن اختتمت مذكراته في إحدى عشرة حلقة سابقاً يعود الشيخ عبدالرحمن فقيه مركزاً وموضحاً في مزيد من الإيضاح، حيث واجهته معوقات وصعوبات في مسيرة حياته العملية ردها إلى شح المعلومات والبحوث مما تطلب وقتاً طويلاً للتغلب عليها.. بينما شهد العالم تطوراً هائلاً واختراعات مذهلة.
وفي لمحات من حياته يتطرق فقيه إلى الواقع المرير للعالم العربي فرغم ضخامة أعداد سكانه واتساع مساحته إلا أنه يفتقد إلى مركز بحثي غير حكومي يلجأ إليه لينير له الطريق فيما تنفق اسرائيل بسخاء على مراكزها البحثية.
ومن خلال هذه النظرة الشاملة والواعية تولدت لديه فكرة إنشاء مركز فقيه للأبحاث والتطوير عام 1417هـ كخطوة رائدة تؤكد اسهام القطاع الخاص في بناء قاعدة علمية تفتقر إليها بلادنا وكتطبيق عملي للمفهوم الصحيح للعمل الخيري..
في (لمحات من حياتي) أتطرق إلى ما شهده العالم من تطور هائل واختراعات مذهلة خلال القرن الماضي، كانت هي المحرك والأساس الذي قامت عليه حضارة العلم التي فتحت الآفاق وحولت ما كان مستحيلاً على زماننا واقعاً معاشاً اختصر الكثير من الوقت والجهد وفتح الباب واسعاً نحو مستقبل أكثر اشراقاً وعطاءً لخير البشر جميعاً.
وما كان لكل هذا التطور المذهل أن يتحقق إلا عبر البحث العلمي والتجارب الحثيثة لابتكار الحلول للمشكلات التي تواجه الإنسان سواء كان ذلك في حياته أو في ما يواجه المجتمعات من صعوبات تحول دون نموها وتقدمها المنشود.
وقد واجهت في حياتي العملية ومشاريعي الخاصة جانباً من هذه المعوقات والصعوبات، وكانت مسألة التغلب عليها تتطلب من المعلومات والبحوث ما يستغرق وقتاً طويلاً ومراسلات عديدة في ظل الشح الواضح في مراكز البحوث داخل البلاد أو في البلدان العربية.
وإذا نظرنا إلى واقع العالم العربي سكانياً وجغرافياً نجد أن مجموع سكان البلدان العربية ابتداءً من شبه الجزيرة العربية وبلاد الشام وأرض الرافدين ومصر والسودان وبلاد المغرب العربي والقرن الأفريقي يزيد على (469ر621ر338) نسمة، يتوزعون على رقعة ممتدة من الأراضي الشاسعة تغطي مساحة تقدر بـ(469ر291ر14كلم)، ويبلغ اقصى امتداد له من الشرق إلى الغرب (6000 كلم) ومن الشمال إلى الجنوب (4000 كلم).
وكل هذه المواطن الضخمة في مساحاتها وفي أعداد البشر الذين يسكنون فيها ليس فيها مركز بحثي غير حكومي تلجأ إليه هذه الأمم لينير لها الطريق فيما تهدف إليه من نشاط زراعي أو صناعي أو طبي، بينما هناك مساحة جانبية لا تزيد عن (770ر20 كلم2) – وهي المساحة المعترف بها دولياً – وعدد سكانها – حسب إحصاء عام 2013 – يبلغ (000ر180ر8) نسمة تسمى اسرائيل تتبوأ المركز الرابع على مستوى العالم في نشاط البحث العلمي بعد سويسرا والسويد والدنمارك من حيث عدد المقالات العلمية لكل مليون مواطن حيث نشر العلماء الإسرائيليون (6309) بحثاً في دوريات علمية اجنبية ويقارب دورهم في النشاط العلمي العالمي عشرة اضعاف نسبتهم من سكان العالم، كما احتلت اسرائيل المرتبة الأولى عالمياً من حيث نصيب الفرد من الانفاق على البحث العلمي، وجاءت بعدها الولايات المتحدة ثم اليابان، حيث تنفق (8ر1272 دولاراً) سنوياً للفرد متساوية في الصرف على البحث العلمي مع اليابان والولايات المتحدة الامريكية والمانيا وفرنساِ، ومتقدمة على اسبانيا وتركيا، وفي الوقت الذي وصل فيه عدد براءات الاختراع التي حصلت عليها اسرائيل (16805) براءات اختراع. لم يحصل العرب مجتمعين إلا على حوالى (836) براءة اختراع بنسبة لا تتجاوز (5 %) مما لدى اسرائيل.
وفي الوقت الذي تنفق فيه اسرائيل على مراكز البحث العلمي لديها سواء الحكومية او الخاصة (7ر4%) من انتاجها القومي، نجد ان مجموع موازنات مراكز الابحاث العربية المرتبطة بحكوماتها لا تزيد عن (2ر0%) من الناتج القومي للعالم العربي كله.
ويكشف هذا الواقع المؤسف حجم الفجوة الهائلة بين ما تمتلكه دولة في حجم اسرائيل من امكانات علمية هائلة وبين ما نملكه نحن العرب من امكانات متواضعة، الامر الذي يحتم علينا ضرورة تغيير هذا الواقع، من خلال توجيه مزيد من الانفاق في ميدان البحث العلمي، وان يكون للقطاع الخاص دور فاعل في هذا المجال كما هو الحال في الدول المتقدمة.
ومن هذا المنطلق كان إنشاء (مركز فقيه للأبحاث والتطوير) عام 1417هـ باعتباره خطوة رائدة في هذا الاتجاه، ليؤكد على اهمية اسهام القطاع الخاص في بناء قاعدة علمية تفتقر إليها بلادنا من ناحية، ومن ناحية أخرى يعد تطبيقاً مخلصاً للمفهوم الصحيح للعمل الخيري الذي يتصور بعض الناس أنه مقصور على اخراج الصدقات، ومد يد العون للمحتاجين، مع أن حاجة الناس إلى مشروع ذي عائد مستديم يرفع عنهم جانباً من المعاناة اليومية، ويذلل أمامهم بعض صعوبات الحياة ومتاعبها، قد يكون أهم من ذلك بكثير.
ولا ننسى هنا ان دعم أهل الخير لمعاهد ومراكز البحث العلمي، انما هو نهج إسلامي أصيل نشأ في بلادنا، ممثلا في نظام الوقف الذي كان له دور مشهود في صنع الحضارة الإسلامية.
ونحمد الله كثيرا أن مركز فقيه للابحاث والتطوير – بعد ثمانية عشر عاماً على إنشائه مازال يواصل دوره الرائد في مجال البحث العلمي والتطوير التقني، انطلاقا من توجه وطني أصيل نحو التفاعل مع القضايا والمشكلات الملحة في مجتمعنا في محاولة لتوفير الحلول والبدائل العلمية المناسبة لها، ومن بين هذه القضايا:
قضية المياه:
اعطى المركز اهتماماً خاصاً لأبحاث المياه استشعاراً منه لخطورة مشكلة نقص موارد المياه، وضرورة توفير البدائل العلمية المناسبة لمواجهتها، ومن ثم تبني العديد من الأبحاث المهمة في هذا الصدد ومن بينها:
1- موارد المياه الجوفية في جنوب مكة المكرمة:
حيث قام المركز باجراء دراسة علمية لموارد المياه الجوفية بمنطقة المسفلة بجنوب مكة المكرمة حيث إنها أكثر المناطق انخفاضاً في محيط المدينة وتنحدر إليها المياه الجوفية من الوديان المختلفة، والهدف العام من الدراسة هو استكشاف موارد المياه الجوفية بمنطقة جنوب المسفلة وقياس حجم المياه الجوفية واجريت الدراسة في المناطق الواقعة جنوب المسفلة التي يخترقها وادي ابراهيم ابتداء من منطقة الكعكية شمالاً وحتى مصب وادي ابراهيم في وديان عرفة – نعمان ووادي ملكان جنوباً فيما يسمى منطقة الحسينية. واوصت الدراسة بما يلي:
* ضرورة تنقية المياه المستخرجة قبل استعمالها بما يتناسب مع الاستخدام المطلوب سواء للزراعة أو الصناعة أو الشرب أو سقيا الماشية.
* يمكن السحب من هذه المياه بمقدار كمية المياه المتجددة في المنطقة وهو سبعة ملايين م3 سنوياً، أي بمعدل 20 الف م4 يومياً.
* يمكن زيادة السحب عن كمية المياه المتجددة بصورة تدريجية (7 ملايين م3/ في السنة) مع مراقبة معدل هبوط الماء الجوفي بحيث لا يزيد الهبوط على منسوب الماء السنوي.
* إن وادي نعمان ووادي فاطمة ووادي ملكان هي أنسب المناطق للبحث عن موارد إضافية للماء الجوفي.
2. المياه في الشبكة العامة لمكة المكرمة:
1. وهدفت هذه الدراسة إلى دراسة التسريبات من الشبكة العامة بالعاصمة المقدسة، وتقدير الفاقد من المياه في مختلف أحياء مكة المكرمة نتيجة للتسربات. وتم اختيار عدد من مناطق الشبكة وفق أسس علمية وتم اجراء اختبارات التسرب عليها وتوصلت الدراسة إلى تحديد أماكن التسربات في العديد من المناطق حيث وصلت التسربات بها إلى نسب مرتفعة حيث تتراوح نسبة الفاقد من المياه نتيجة للتسريبات والتوصيلات غير النظامية في المناطق التي تمت دراستها بين 34ر1% و24ر56% والقيمة المتوسطة لجميع المناطق تبلغ 84ر27% وهي نسبة مرتفعة ولابد من اتخاذ التدابير اللازمة لخفض هذه النسبة الى اقصى حد ممكن فنياً واقتصادياً.
2. إعادة استخدام المياه:أسلوب فعال للتغلب على نقص المياه وترشيدها بالمملكة العربية السعودية.
إن النقص الحاد في المياه المتاحة لدى المملكة بسبب قلة المصادر الطبيعية ونضوب بعضها، وارتفاع تكلفة تحلية مياه البحر، والنمو العمراني السريع بسبب زيادة عدد السكان أدى إلى اللجوء إلى حلول فاعلة وعاجلة فكانت فكرة إعادة استخدام مياه المغاسل والادشاش بعد معالجتها وإعادة ضخها في صناديق الطرد (السيفونات) من الأفكار التقنية الناجحة. وهذه التقنية مطبقة في العديد من دول العالم ولها مزايا اقتصادية وبيئية، وتم تطبيقها في شركة مكة للإنشاء والتعمير وشركة جبل عمر للتطوير، وقد تبنت الدولة هذه الفكرة واصبحت ملزمة للمنشآت السكنية والمجمعات الحضرية التي توفر 43 % من كمية المياه المستهلكة للتغلب على نقص المياه وترشيدها وبدراسة تأثير هذه التقنية على فيلا سكنية وجد أنه يمكن توفير 43% من استهلاك المياه فيها وعلى مستوى المدينة يمكن أن يصل التوفير إلى 33% من اجمالي تكلفة المياه المتاحة للمدينة، وقد قام مركز فقيه للأبحاث والتطوير بإعداد كتاب عن هذا المشروع بعنوان (إعادة استخدام المياه: أسلوب فعال للتغلب على نقص المياه وترشيدها).
قضايا البيئة:
4- تبريد الفراغات الخارجية بالمشاعر المقدسة:
يلتقي حجاج بيت الله الحرام في مشعر عرفات يوم التاسع من شهر ذي الحجة في كل عام وقد يصل عددهم إلى حوالى ثلاثة ملايين حاج في جو تتراوح درجة حرارته من 40 – 48 درجة مئوية وبسبب هذا الازدحام والارتفاع في درجة الحرارة وكذلك الحرارة الناتجة من عوادم السيارات والأتربة والغبار المتصاعد وتسلط أشعة الشمس يصبح الجو غير مريح بالنسبة للحجاج ويؤدي إلى إصابة الحجاج بضربات الشمس والإجهاد الحراري.
واقترح مركز فقيه للابحاث والتطوير مشروعاً لتبريد المناخ وتطليف الجو في مشعر عرفات عام 1410هـ بواسطة البخاخات والرذاذة وتم تركيب عشرين ألف بخاخ ضمن قطاعات المشروع الخيري للتشجير في مشعر عرفات وهو قائم حالياً. وكما اهتم المركز بإجراء الدراسات والأبحاث اللازمة لتطوير هذا المشروع حيث تم إجراء دراسة عن الوسائل الطبيعية لتبريد الفراغات الخارجية بالمشاعر المقدسة عام 1417هـ بالتعاون مع معهد خادم الحرمين الشريفين لأبحاث الحج وكانت أهم النتائج التي توصلت إليها هذه الدراسة:
– انخفاض درجة حرارة الجو أثناء النهار بمقدار 6 ْم.
– انخفاض الحرارة الاشعاعية.
– تحسين نوعية الهواء من ناحية انخفاض عدد الميكروبات.
– انخفاض معدل نسبة الأتربة العالقة في الجو.
– انخفاض نسبة الغازات السامة مثل أول اكسيد الكربون والكبريت.
5. دراسة مشروع تقويم التأثيرات البيئية لمنتجع جزيرة النورس السياحي بجدة:
عنوان هذه الدراسة تلقي الضوء على التأثيرات البيئية لمنتجع جزيرة النورس جدة ويشرح هذا التقرير عمل محطة تحلية مياه البحر ومحطتي معالجة مياه الصرف الصحي جزيرة النورس. كما يوضح هذا التقرير التلوث الخارجي وتأثيراته على منتجع النورس ويضع بعض الحلول المقترحة.
قضايا الطاقة:
ويهدف هذا المجال إلى تشجيع وتطوير الإبداع والابتكار، وتوطين التقنية ومن أهم الأبحاث في هذا المجال:
6. إنتاج وحدات لاستخلاص ماء عذب من الهواء الجوي:
يهدف هذا المشروع إلى استخلاص المياه الصالحة للاستعمال من رطوبة الجو في المناطق الساحلية الرطبة والحارة وفي هذا الصدد قام المركز بتصميم أجهزة متطورة واقتصادية لاستخلاص مياه الشرب بكميات كافية لاستخدام قاطني المناطق الساحلية الذين يتعسر عليهم الحصول على المياه. وكذلك دراسة الجدوى الفنية والاقتصادية لاستخلاص المياه من رطوبة الجو وتطبيقاتها. كما قام المركز بإجراء عدة دراسات في هذا الجانب وتم إنتاج عدة وحدات لاستخلاص ماء عذب من رطوبة الجو والحصول على نتائج جيدة تساهم في الحصول على مياه بكميات مناسبة وبتكلفة منخفضة، وسميت هذه الوحدات باسم (F1 , F2 , f3) ويعتبر مركز فقيه للأبحاث والتطوير هو صاحب الفكرة الأساسية لهذه الوحدات وهو صاحب براءات الاختراع لها.
7. قياس معدلات الطاقة الناتجة أثناء تجمد المياه وانصهار الثلج:
وتركز هذا البحث على تصميم تجربة معملية يتم فيها تجميد وإعادة انصهار كتلة من الماء النقي وتعيين كمية الطاقة المستخدمة أثناء العمليتين وتحديد قيمة الطاقة الناتجة أثناء عملية التجمد في إناء ثابت الحجم.
قضايا الأوقاف والاقتصاد:
واهتمت أبحاث المركز بتطوير نظم إدارة الأوقاف باعتبارها من أهم آليات اسهام القطاع الخاص في التنمية. بالإضافة إلى الاهتمام باستثمار الأوقاف عن طريق إدارة الأوقاف بنظام الشركات وعبر الصناديق المتخصصة لمصارف الأوقاف وفق شروط واقفيها، وكذلك الاهتمام بالأبحاث في مجال الاقتصاد ومن أهم الأبحاث:
8. إدارة الأوقاف على أسس اقتصادية:
ويناقش هذا البحث الاتجاهات الحديثة في تأسيس الوقف، وإدارة أصوله، بهدف تحقيق اقصى منفعة ممكنة للوقف, مع الإشارة الى دمج الأوقاف بعامة، والأوقاف الصغيرة بخاصة بوصفه وسيلة لتحقيق هذا الهدف، والإشارة إلى تجربة شركة مكة للإنشاء والتعمير في إدارة الأوقاف على أسس اقتصادية.
9. دراسة سياسة الاغراق لصادرات الدواجن إلى المملكة العربية السعودية:
أوضحت الدراسة أن معونة التصدير على مبيعات الدجاج الكامل الفرنسي إلى المملكة العربية السعودية إدت إ لى تخفيض قيمة التصدير حيث تصل الخصومات إلى أكثر من 40%.
ويتضح من الدراسة أن هامش الإغراق الفرنسي لعام 2009م بلغ (75ر3) ثلاثة ريالات وخمسة وسبعين هللة لكل كيلو جرام وهذا يعني أن المصدرين الفرنسيين يبيعون الكيلو جرام من الدجاج بأقل من تكلفة الإنتاج بما يقارب (75ر3) ثلاثة ريالات وخمسة وسبعين هللة.
10. دراسة عن حجم الإعانات التي تقدمها الدول الأوروبية لمساعدة مصدري الدواجن فيها:
تهدف هذه الدراسة إلى توضيح السياسات المزدوجة لدول أوروبا وأمريكا للإضرار بالدول النامية وذلك باشتراطها على هذه الدول بإلغاء جميع الرسوم الجمركية الحمائية لمنتجاتها الوطنية ووقف جميع الإعانات لصناعاتها الوطنية حتى تسمح لها بالانضمام لمنظمة التجارة الدولية وأعطت الدراسة نموذجاً عملياً بما تقدمه هذه الدول من إعانات لمصدري الدواجن فيها.
11. دراسة إنشاء معرض دائم لصناعات الدول الإسلامية في مكة المكرمة:
هدفت هذه الدراسة من خلال إتباع أساليب البحث العلمي إلى إبراز أهمية إقامة معرض للمنتجات الإسلامية بمدينة مكة المكرمة ودراسة إمكانية نجاح مثل هذا المعرض بهدف الارتقاء بسبل التبادل التجاري بين الدول الإسلامية في ظل النسب المتواضعة حالياً للتجارة البينية بينها والتي تتراوح ما بين 5 – 9% فقط.
– نواصل –