أرشيف صحيفة البلاد

الرَّجل الصَّالح عبد العزيز آل سعود.. القيادة بالفطرة السَّليمة

• اللواء الركن م. الدكتور بندر بن عبد الله بن تركي آل سعود

صحيح، لم يدرس مؤسس دولتنا الفتيَّة الشَّامخة، يد الخير الكبيرة الممدودة للعالم كلّه، صاحبة الرسالة السَّامية العظيمة، وموحد قلوب شعبها على توحيد الله والمحبة والسلام والتآخي والوئام والتعاون على البِرِّ والتقوى، وموحد جغرافيتها من أقصى شرقيها إلى أقصى غربيها، ومن أقصى شماليها إلى أقصى جنوبيها، ومرسِّخ أمنها واستقرارها.. أقول لم يدرس مؤسس بلادنا الطيبة المباركة هذه، والد الجميع، الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود، طيَّب الله ثراه وجعل الجنَّة مثواه، العلوم السياسية والعلاقات الدولية في أفضل جامعات العالم، ولم يدرس العلوم العسكرية وفنون الحرب والقتال في كلياتها الحربية، ولم يدرس العلوم الأمنية والإدارية في معاهد الشرطة وكلياتها والكليات الإدارية..

ومع هذا كله، استطاع بفضل الله سبحانه وتعالى، ثم بما وهبه إيَّاه المنعم الوهاب عزَّ و جلَّ، من صفات قيادية فريدة، وقدرة عقلية هائلة، وملكة قوية، وفكر متقدم، وحس سليم لم يُعرف أنه خذله ذات يوم، استطاع المؤسس الباني بجهده وعزمه وحزمه وصدق نيَّته، وإخلاص رجاله له، والتفاف شعبه حوله، أن يؤسس لنا هذه الدولة القارة الفريدة، التي تعد شامة بين الأمم، وتمثِّل مركز العالم، لما حباها الله من موقع إستراتيجي متميز، وخير وفير، وقيادة رشيدة صالحة حكيمة، تَجِدُّ السير قدماً على خطى عبد العزيز، وشعب وفيٌّ نبيل، يُقَدِّر نعم الله عليه، التي تمثِّل رعاية الحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة وخدمة ضيوف الرحمن أجلَّها وأعظمها؛ بل أحسب أنها أجلَّ نعمة تفضل الله بها على نفر من خلقه. فحكم عبد العزيز بلاده لخمسين عاماً، قاد خلالها شعبه من قفار الصحراء إلى إقامة علاقات وطيدة طيبة مع أكبر دول العالم وأعظمها؛ بعدما وحدها في ظروف عملية، أقل ما يقال عنها إنها كانت شديدة التعقيد في الأوضاع الدولية،

شهدت أفول نجم الإمبراطورية العثمانية التي حكمت نصف العالم لأكثر من أربعمائة سنة، على يد الدكتاتور مصطفى كمال باشا أتاتورك، الذي ألغى المنصب التاريخي للخلافة الإسلامية عندما أطاح بآخر الخلفاء العثمانيين (عبد المجيد)، ثم تكالب الغرب إثر أفول نجم الإمبراطورية العثمانية بقيادة بريطانيا، ليرث المنطقة ويقسمها بينه إلى مناطق نفوذ لهذا وذاك. ويذكِّرنا هذا اليوم بانضمام أمير دولة قطر، تميم بن حمد، للسائرين على خطى أتاتورك، المنادين بتدويل الحرمين الشريفين للأسف الشديد، مع الفارق طبعاً بين الرجلين؛ الأمر الذي سبَّب له ولبلاده كثيراً من الإزعاج والإحراج، لن يكون آخره ما تعرض له هو شخصياً من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، أمام آلة الإعلام العالمية الهائلة في نيويورك، مع أنه وقَّع مع بلاده (اتفاقية مكافحة الإرهاب)؛ وإن كنت أتمنى أن يبدأ أمير دولة قطر بنفسه، فيقطع علاقة بلاده بالجماعات الإرهابية المتطرفة بكل كياناتها ومسمياتها، وهو بهذا أصبح على النقيض تماماً من منهج أسلافه.

وبما أنني أتحدث هنا عن المؤسس، فجدير بي أن أشير إلى تلك العلاقة الفريدة المتميزة، التي كانت تربطه بـ (أمير إمارة قطر) الشيخ قاسم بن ثاني، صديقه الوفي المخلص وحليفه القديم، الذي هبَّ عبد العزيز لنجدته عام 1323ه/1905م، وهو العام نفسه الذي توفى فيه الشيخ قاسم بن ثاني عن مائة وأحد عشر عاماً، وكان يتمتع بسمعة طيبة، محتفظاً بقدراته الجسدية والذهنية حتى وفاته؛ ثم خَلَفَهُ في الحكم ابنه عبد الله الذي حافظ على علاقات الود تلك مع عبد العزيز وطوَّرها لمصلحة الجميع. ولهذا أدعو أمير (إمارة قطر) التي أصبحت (دولة قطر) اليوم، لإعادة قراءة التاريخ جيِّداً، مستصحباً جهد الشيخ عبد الله بن علي آل ثاني وحكمته، ورسالة الشيخ سلطان بن سحيم بن حمد، التي وجَّهها من باريس حيث يقيم إلى (أهل قطر الكرام كافة). كما أدعوه أيضاً لإعادة قراءة ما اتفق عليه الجميع: (حل مشكلته في الرياض)، لا في الغرب أو طهران أو حتى الأمم المتحدة.

وإذ نحتفي اليوم بالذكرى السابعة والثمانين ليومنا الوطني المشرق، شكراً لله عزَّ وجلَّ، على واسع فضله وتوفيقه ونعمه التي تترى علينا صباح مساء، ثم عرفاناً وامتناناً لمؤسس دولتنا وتضحياته التي فاقت الخيال من أجل استقلال بلادنا وعزَّة نفسنا وكرامتنا ورفاهيتنا ومكانتنا السامقة بين الأمم، التي جعلت بلادنا مقصداً تشرئب إليه حتى أعناق قادة ما يُسَمَّى بـ (دول العالم العظمى) وشعوبها، لمعالجة سياسة العالم واقتصاده، وحفظ أمنه واستقراره.. أقول إذ نحتفي اليوم بهذه الذكرى العطرة الزكية، التي تؤجج مشاعر الولاء والوفاء والحب والإخلاص لمن دفع عمره ثمناً لما نتقلب فيه اليوم من نعيم الله علينا؛ لن أحدثكم عن ملحمة استعادة الرياض، تلك الضربة الذكية القوية الخاطفة، التي تُعَدُّ طفرة فريدة نادرة في العلوم العسكرية، إذ استطاع المؤسس بإمكانيات لا تكاد تذكر من عدَّة الحرب ولوازمها حتى بمقاييس ذلك العصر، من تحقيق نصر أقرب ما يكون إلى الخيال من الحقيقة، لكنه على كل حال، توفيق الله، ثم ما تفضَّل به سبحانه وتعالى على المؤسس من موهبة عظيمة، ساعدته في الاستفادة مما كان متاحاً لأقصى درجة ممكنة، إضافة لاختيار التوقيت الصحيح لتنفيذ العملية، والتعليمات الحكيمة الجريئة للروَّاد الذين رافقوه في ملحمته تلك.

أقول.. لن أحدثكم اليوم عن ملحمة استعادة الرياض، ولا عن ثلاثين عاماً قضاها المؤسس ورجاله في جهاد مستمر وقتال متصل للمناوئين والمثبطين والمتآمرين، الذين بذلوا كل ما في وسعهم لتعطيل مسيرة الخير القاصدة، بل سأحدثكم عن شيء من بطولة المؤسس القيادية وصفاته الشخصية الشاملة التي جمعت الفضائل والمكارم في شخصه الكريم.. وأقول لمحة سريعة فقط لأن الإحاطة بجوانب المؤسس الشخصية والإنسانية، عمل شاق حقاً، إن لم يكن مستحيلاً. فقد سبق أن تشرفت فأفردت له كتاباً كاملاً بعنوان (الجوانب الشخصية في حياة المؤسس.. الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود)، صدر عام 1435ه/2014م، ومع هذا لم استطع أن أوفيه حقَّه.

أجل.. فقد كان عبد العزيز أُمَّة كاملة تامة، صاحب رسالة عظيمة، عزم على استمرارها مهما غلا الثمن وعظمت التضحيات، لأنها غايته من الحياة. ولأنه كان صاحب نيَّة صادقة وثقة لا تحدها حدود بخالقه سبحانه وتعالى، واتكاله عليه واطمئنانه إلى نصره، كتب الله له التوفيق.. وها هي رسالتنا تمضي اليوم قدماً، محقِّقة نجاحاً بعد نجاح من يوم لآخر. فبجانب ما تمتع به المؤسس من ذكاء حاد وقوة وشجاعة، وإقدام وحزم وعزم وفكر متقدم، كان أيضاً رابط الجأش، صعب المراس، شديد البأس، يجابه الصعاب بهدوء فريد؛ كما كان شديد التواضع في الوقت نفسه، ينفر من الأبهة والخيلاء والرسميات الفارغة التي لا تجدي نفعاً ولا تعود على الأُمَّة بأي خير. كما كان كريماً محسناً حتى مع خصومه ومناوئيه، متسامياً على كل جراح؛ ولهذا فتح قلبه وبيته وجيبه لهم، والأمثلة تجل عن الوصف؛ حتى مع ألدَّ أعدائه الذين بذلوا كل ما في وسعهم من غدر وخيانة وتآمر لتعطيل مسيرته الظافرة كما تقدم. ومن أجل نجاح تلك المسيرة الفريدة، كان عبد العزيز شديد الحرص على تثقيف الأهالي وفق تعاليم الدين الإسلامي الصحيحة على الكتاب والسُّنَّة التي تشمل أشكال الحياة كافة. فسارع بتشييد المساجد والمدارس، وعيَّن عليها من هم أهل للقيام بتلك المهمة العظيمة في هداية الناس وتعليمهم أمور دينهم وتنوير عقولهم وتثقيفهم وتهيئتهم لتحمل أعباء رسالة بلادهم إلى العالم كله.

أما سمعته في العدل والثبات، فقد كانت هي العامل الحيوي الذي ميَّز فترة التأسيس والتوحيد، فأصبح للجزيرة العربية للمرة الأولى حاكم واحد، اتفق الجميع عليه، فأغرقوه بالاحترام والتقدير والطاعة والحرص على الخدمة وتجويد العمل؛ فصار شخصية عالمية ذائعة الصيت.

أما على الجانب السياسي، كان المؤسس طيَّب الله ثراه، ديمقراطياً من حيث النزعة الفردية، ملماً بقدر كافٍ بأمور التشاور في الحكم، وهي صفة كانت بمثابة جزء متكامل في حياة العرب؛ مما سهل عليه مهمة الاستمرار في الحكم، وكثيراً ما كان يتمثل قوله تعالى: (وشاورهم في الأمر…)، آل عمران: 159. كما تميز بحس غريزي فريد في اختيار الرجال المناسبين أصحاب الكفاءات النادرة لشغل مختلف وظائف الدولة. ولهذا نجد أن كافة الشخصيات التي جمعها حوله في بداية عهد التأسيس والتوحيد، استمرت ليس في خدمته فحسب، بل بقيت تشغل وظائفها وما كلفها به من مهمات في الدوائر الرسمية نفسها تقريباً إلى أن وافته المنيَّة.،إذ كانت معرفته بهم وثيقة، وكذلك معرفته بفضائلهم وأخطائهم؛ فقرَّبهم إليه وأغدق عليهم كرماً وسخاءً لا حدود لهما نظير إخلاصهم له. وقد ذكرت في مقال سابق أنه بلغ درجة عدم مد يده الكريمة إلى الطعام حتى يجتمعوا معه عليه، بل أكثر من ذلك: كان ينتقي أطايب الطعام ويضعها أمامهم، ويؤاكلهم فيمازحهم ويضاحكهم ليشعروا بالراحة ويأخذوا حاجتهم من الطعام؛ ولم يكن يغادر المائدة إلاَّ إذا تأكد أن الجميع قد اكتفى.

وكان بجانب هذا يتصرف معهم على سجيته دون تصنُّع أو تكلُّف ونفاق، كما اتسم بروح الدعابة والطرافة التي كانت تشد أزره حيال وطأة أعباء الحكم على عاتقه.
أذكر من أولئك الرجال المخلصين الأوفياء الذين خدموا عبد العزيز، فأغرقهم بكرمه على سبيل المثال: عبد الله السليمان، فؤاد حمزة، حافظ وهبة، رشدي ملحس، يوسف ياسين، خالد القرقني وعبد الله الدملوجي، الذي خدم عبد العزيز فترة أطول من خدمة أي شخص آخر له. وقد وصف محمد جلال كشك قدرة عبد العزيز الهائلة على جمع تلك الثُّلَّة الخيِّرة حوله بعبارات بليغة، إذ يقول: (كانت لديه قدرة ساحرة على احتواء الآخرين من شتى الثقافات والانتماءات والخلفيات. فأخضع البدو بشهامته وسخائه وكرمه… وبايعه الريحاني اللبناني المسيحي الأمريكي الجنسية، وفيلبي الملحد ممثل الإمبراطورية، وتلاميذ محمد عبده والأفغاني في العالم العربي، وعشَّاق الخلافة من مسلمي الهند، وثوَّار ليبيا، والوفديون في مصر، والوطنيون في سوريا والعراق.. كلهم بايعوه زعيماً للعالم العربي واعتبروه المنقذ الوحيد للعالم الإسلامي). بل أكثر من هذا: لقي الكابتن شكسبير حتفه مقاتلاً تحت راية عبد العزيز.. فأي سحرٍ وأيَّة قدرة وأي ذكاء على تأليف القلوب واجتذاب الرجال من كل حدب وصوب! ولهذا صدق فيلبي إذ يقول: (معرفة عبد العزيز لا تُقَدَّر بثمن).

وعلى صعيد آخر، تميز عبد العزيز بإحساس غريزي يدفعه لاتخاذ القرار الصحيح في أحلك المواقف صعوبة، كما يتخذ كل ما يراه صحيحاً من إجراءات دون خوف أو محاباة لأحد على حساب آخر؛ حتى إن كان هذا أو ذاك يسبب له شخصياً حرجاً من نوع ما. فكان مستقلاً استقلالاً تاماً في سياسته وقراره عن أي تأثير لأي قوىً أجنبية أو إقليمية. ولهذا عندما اندلعت الحرب العالمية الثانية، لم يتردَّد ولو للحظة واحدة عن إعلانه الحياد من ذلك الصراع، بل أكثر من هذا: اتخذ إجراءات عديدة ضد طرفي الصراع على حدٍّ سواء (الحلفاء ودول المحور)، تؤكد مبدأه هذا، ففاز باحترام الجميع وتقديرهم وحاز إعجابهم. ورفض رفضاً قاطعاً طلب روزفلت وتشرشل عندما التقاهما في البحيرات المرة بمصر، إعلان الحرب على ألمانيا واليابان من أجل قبول بلاده عضواً في الأمم المتحدة، حتى مع قناعة الجميع بهزيمتهما الأكيدة.. لكنها أخلاق الكبار التي تأبى الغدر والخيانة والدناءة والشماتة، حتى بالأعداء. فقد كانت طبيعة المؤسس الشخصية تحول دون تصرفه في أي أمر تلوح بوادر فشله في الأفق، لاسيَّما إذا كان في هذا الأمر أو ذاك، إضرار بشرفه أو باحترامه لنفسه. فاضطرت الأستانة في النهاية للاعتراف بسلطته وتسميته والياً على نجد، وساعدته بالسلاح والذخيرة، بل أكثر من ذلك: أهدته النيشان العثماني، ولقَّبته بـ (صاحب الدولة)؛ ولجأت إليه بريطانيا لتجييش العرب ضد الدولة العثمانية، فرجعت بِخُفَّيْ حنين.

أما على الصعيد العسكري، فقد كان عبد العزيز داهية لا يشق له غبار، يوظف كل ما لديه من موهبة لتحقيق نصر خاطف بأقل خسائر ممكنة حتى في صفوف مناوئيه حرصاً على الأرواح والممتلكات، ولم يؤثر عنه أنه بدأ أحداً بقتال. وكان مع هذا، أشد الناس حرصاً على الحرب السريعة الخاطفة النظيفة، متقناً لفنون الحرب النفسية من كثافة لإطلاق النيران، وهتاف بصرخات الحرب للتأثير على معنويات الخصوم وتثبيط همتهم للقتال. ويوظف كل ما لديه من معرفة وخبرة ليجبر خصمه على الاستسلام منعاً لإراقة الدماء وإهدار الموارد التي كانت شحيحة بطبيعتها، وتحييداً للأبرياء من أضرار الحرب، ولهذا اعتمد مبدأ الحصار كثيراً في معظم حروبه تقريباً، لاسيَّما في أشهرها وأخطرها وأهمها.

وكان هو الذي يصدر التعليمات العسكرية لكبار مساعديه من القادة التي تتعلق بالكيفية التي ينبغي بها تنفيذ الهجوم والتعامل مع الخصوم بعد تحقيق الانتصار عليهم؛ كما كان عفيفاً كريم النفس، يوصي جنوده دائماً: لا تدخلوا البيوت، ولا تقربوا من النساء، ولا تقاتلوا من أمسك عن قتالكم. فلا غرو إذن أيها القارئ الكريم، أن تعلم أن عبد العزيز تمكَّن من هزيمة ثماني كتائب من القوات النظامية العثمانية التي جاءت لنجدة خصمه، عبد العزيز بن متعب الرشيد.

وفي ما يتعلق بالجانب الإداري، كان عبد العزيز إداريَّاً ماهراً وضع للبلاد تنظيماً إدارياً محكماً، عزَّز مستوى تقدمها وإمكانياتها وشكَّل أساساً راسخاً لإدارتها حتى اليوم. ولهذا لم أكن أتجاوز الحقيقة عندما كنت أؤكد دائماً في كل مقالاتي أن كل ما نرفل فيه من خير ونعيم، وننعم به من أمن وأمان واستقرار، هو بفضل الله سبحانه و تعالى، ثم بجهد عبد العزيز.

وصحيح، كانت الظروف العالمية التي رافقت التأسيس والتوحيد شديدة التعقيد، لما حفلت به من تقاطع مصالح الكبار الذين أقبلوا على المنطقة ينهشونها بينهم؛ لكن هذا لم يكن يشغل المؤسس عن دوره العربي والإسلامي، لأنه قائد صاحب رسالة وليس طالب سلطة. ولهذا كان أول من دعا لوحدة عربية، متسامياً على كل الجراح للوقوف صفَّاً واحداً للدفاع عن أمة العرب والمسلمين، لاسيَّما ما يتعلق بقضية فلسطين التي ما تزال تمثل قضية بلادنا الأولى، و هم قادتنا الكرام، الذي يستأثر بجل وقتهم وتفكيرهم. فكان عبد العزيز انطلاقاً من هذا المبدأ، يرفض إقامة أي تعاون مع أية دولة تجاهر بعدائها للدين الإسلامي.. حدث هذا يومئذٍ حتى مع (الاتحاد السوفيتي)،

مع أنه كان أول من اعترف بمملكة عبد العزيز. وأعلن ترحيبه بقدوم أي مسلم لبلاده للحج أو العمرة أو الزيارة والعمل وكسب الرزق، شريطة احترام القادمين إلينا الشريعة الإسلامية وقبولهم لها على أنها النظام الوحيد الذي يضبط مجيئهم ومغادرتهم في كافة المناسبات الدينية. ودعم التضامن العربي مع فلسطين بتشكيل لجنة لجمع التبرعات للشعب الفلسطيني برئاسة ابنه الأمير محمد. وأصدر عام 1367ه/1947م أمراً بتجنيد المتطوعين للخدمة العسكرية، فأصدر تعليماته لكافة حكام مناطق بلاده لفتح مراكز تسجيل للمتطوعين، إضافة لدعوته لاثنين من زعماء كل قبيلة لزيارة الرياض لتنسيق جهود دعم الشعب الفلسطيني. وهي السياسة نفسها التي سار عليها أبناؤه البررة الذين تولّوا دفَّة القيادة بعده، من الملك سعود حتى خادم الحرمين الشريفين والد الجميع، سيِّدي الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، حفظه الله ورعاه؛ إذ تعد بلادنا اليوم الأولى على مستوى الدول الإسلامية والعربية مجتمعة في تقديم المساعدات للشعب الفلسطيني، والرابعة عالمياً بعد أمريكا والاتحاد الأوروبي وبريطانيا.

لكن للأسف الشديد، لم يستمع العرب لنصائح عبد العزيز في ما يتعلق بحل قضية فلسطين، خاصة تلك الرؤية المتقدمة التي كانت تقول بضرورة دعم الشعب الفلسطيني بالسلاح والمال والعتاد والمواقف السياسية، دون خوض الحرب معهم، قطعاً للطريق أمام أي تدخل غربي. فرفض العرب قرار التقسيم عام 1356ه/1937م الذي كان من شأنه تحديد رقعة الوطن اليهودي على أقل تقدير، كما زادوا الطين بلَّة، فرفضوا عام 1358ه/1939م، فكرة الكتاب الأبيض الذي كان يهدف إلى تحديد عدد المواطنين اليهود في فلسطين، مدفوعين بالعناد والشعارات البراقة التي لا تقرأ الواقع كما يفعل عبد العزيز، فضلاً عن قدرتها على استشراف المستقبل.

ولهذا لا نستغرب تقلص عدد السكان العرب بين سكان فلسطين المحتلة اليوم إلى (20%)، يملكون (3%) فقط من أراضيهم السكنية التي اغتصبها اليهود، بل أكثر من ذلك: لم يسمح اليهود بإنشاء أية بلدة جديدة للفلسطينيين منذ عام 1368ه/1948م حتى اليوم، حين ظهرت (700) بلدة يهودية جديدة. وبالطبع غني عن القول إن الناتج القومي لليهود في فلسطين المحتلة، يفوق الناتج القومي للفلسطينيين أصحاب الأرض الحقيقيين بعشرين ضعفاً.

وللأسف الشديد أيضاً، ما زال العرب غارقين في الأوهام والأحلام والعناد والاختلاف على كل شيء، فاضطروا (حماس) بصرف النظر عن رأيي فيها، التي كانوا يراهنون عليها لتحرير فلسطين، لمراجعة موقفها، وإعادة قراءة الواقع العربي والإسلامي المرير، نتيجة تطرف المتنطعين وإرهابهم الذي شغل العالم حتى عن نفسه، فاضطر العرب والمسلمين لغسل يدهم من قضية فلسطين لانشغالهم ببيتهم الداخلي. فعادت (حماس) صاغرة لقبول ما رفضه العرب قبل ثمانين عاماً، فأعلنت في (وثيقة المبادئ والسياسة العامة) التي أصدرتها يوم الاثنين 5/8/1438ه، الموافق غرة مايو 2017م، قبولها بإقامة دولة فلسطين في حدود الرابع من يونيو عام 1967م؛ الأمر الذي يعني ضمنياً تخليها عن مبدأ: سحق إسرائيل وتدميرها ومحوها من خارطة العالم.

والحقيقة كان هذا الإعلان المفاجئ برداً وسلاماً على إسرائيل التي قطعاً اندهشت نتيجة هذا التغير المفاجئ الذي كان من سابع المستحيلات وفق إستراتيجية حماس وخطابها السياسي الجامد، مع ما اكتنف الدنيا من تحولات أساسية.. اندهشت إسرائيل لأنها أول من يدرك يقيناً استحالة إقامة دولة فلسطينية ضمن حدود الرابع من يونيو عام 1976م، نتيجة ما أقدمت عليه من تغيير متعمد للجغرافيا، لأنها تدرك أيضاً، بل قل عملت بجد وجهد وفكر وعقل وصمت لإكراه الفلسطينيين على القبول بهذا الحل. فضلاً عن اختلاف الإخوة الأعداء (فتح وحماس) لعشر سنوات عجاف على سلطة وهمية لا تسمن ولا تغني من جوع، واتهام كل طرف غريمه بالاستعانة باليهود لإيذاء الطرف الآخر؛ وإن كان تناقلت وسائل الإعلام وأنا أعد مقالي هذا للنشر، خبر قبول (حماس) النزول عند شروط (فتح) للمصالحة، كعادة العرب دائماً: بعد فوات الأوان. فأعلنت حل اللجنة الإدارية لتفسح المجال لـ (حكومة الوفاق الوطني) لإدارة قطاع غزة، مع فقدان ثقة الفلسطينيين في الحركتين على حد سواء بسبب ما وصل إليه الحال في قطاع غزة من سوء، إذ لم يعد صالحاً للحياة نتيجة تردي الأوضاع فيه من كل النواحي..

يحدث هذا كله فيما قافلة الكيان اليهودي تمضي قدماً، فيعلن رئيس وزرائه من منبر الأمم المتحدة أثناء انعقاد جمعيتها العمومية الـ (72) مؤخراً، بثبات أقرب ما يكون إلى الغرور من الثقة بالنفس، أن العالم اليوم يعانق إسرائيل، وإسرائيل تعانق العالم، مؤكداً أنه زار ستة قارات خلال عام واحد، مذكراً العالم بـ (الخير) الذي تغدقه (بلاده) على العالم، مهدداً إيران ومتوعداً لها، مؤكداً أنها لن تستطيع أن تطفئ (نور) إسرائيل؛ بل وصل به الأمر من الثقة بالنفس والغرور، لشتم الأمم المتحدة على منبرها، و وصف بعض قراراتها بـ (الحماقات والسخافات).. ومع هذا، صفَّقت له الأمم المتحدة. وحقاً لا أدري إن كانت (فتح وحماس) تدركان أن لإسرائيل اليوم علاقات طبيعية وطيدة مع (160) دولة في العالم، بل ستكون أول دولة تقيم علاقات مع (دولة كردستان) التي تنتظر ساعة الصفر على أحر من الجمر لتعلن ميلادها رسمياً.

أما على الصعيد العربي، فحدث ولا حرج عن ضياع (طاسة) العرب، التي لن يكون آخرها استعداد إقليم كردستان لانفصاله عن العراق وإعلان دولة الأكراد المستقلة، مع ما يعلو ويخفت من أصوات معارضة هنا وهناك. والحقيقة التي غفل عنها العرب ثم انتبهوا لها فجأة بعد فوات الأوان كعادتهم دائماً، هي أن إقليم كردستان قد أصبح دولة منذ إبريل عام 1991م، (يرجع الفضل لصدام حسين)، تنتظر اليوم ساعة الصفر فقط لكي تشغل مقعدها في الأمم المتحدة، ربما بجوار مقعد دولة العراق (الأم).. من يدري؟ ومن لا يصدق فليراجع تصريحات مسعود البرزاني، رئيس إقليم كردستان لجميع وسائل الإعلام، وتأكيده الاستعداد التام للتصدي لأية مقاومة، حتى إن كانت عسكرية، تسعى لإجهاض حلمه الذي حمل السلاح من أجله منذ كان فتىً يافعاً في السادسة عشرة من العمر. ولم يبق في تقديري غير الاتفاق مع بغداد على تحديد الحدود البرية والمائية وتحديد حقول النفط، شاءت بغداد أو أبت، حسب تعبير البرزاني، الذي يسعى جاهداً لضم كركوك، التي تمثل (40%) من نفط العراق لدولته المرتقبة، مع أن (70%) من سكانها هم من العرب.

وختاماً: كما أكدت في المقدمة، يصعب علينا، إن لم يكن يستحيل، الإحاطة بمناقب هذا الرجل الصالح القائد الفذ، عبد العزيز آل سعود وصفاته العديدة، وعليه أقول بالجملة: تميزت شخصيته بمهارات وقدرات وفضائل منقطعة النَّظير، واشتملت على صفات روحانية وصفات حكم دنيوي مرتكزة على أرضية صلبة من الإيمان والعدل، فغدا نبراساً فريداً من نوعه لفن السياسة الإنسانية في إدارة البلاد. وهو الفن الراقي المسؤول نفسه الذي سار عليه كل من تعاقب على الحكم من أبنائه البررة الكرام، لاسيما اليوم، في عهد سيدي الوالد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، ملك الحزم والعزم والثبات، حفظه الله و رعاه، ذلك الفن الرَّصين الذي أوجزته حاكمة طوكيو في تغريدة موجزة على حسابها في تويتر، إذ تقول: سألت الملك سلمان بعد أكثر من خمسين سنة كحاكم للرياض: ما هو سرُّ القيادة الناجحة؟ فأجابني: الاستماع للمواطنين.

أجل، الاستماع للمواطنين الذين أكدوا صدق انتمائهم وإخلاصهم لعقيدتهم والتفافهم حول قيادتهم وحبهم لوطنهم، كما رأينا إثر الدعوة التآمرية البغيضة لحراك الخامس عشر من سبتمبر المزعوم، الذي حوله المواطنون مناسبة لتجديد البيعة للقيادة وتأكيد الولاء للعقيدة والاستعداد للتضحية بالغالي والنفيس من أجل هذا الوطن العزيز الغالي، الذي أجزم يقيناً أنه ليس في الدنيا مثله وطن، إذ كفاه فخراً أن فيه أول بيت وُضِعَ للناس في الأرض، ويضم مثوى أفضل خلق الله، كما إنه قبلة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، الذين تشرئب أعناقهم إليه من كل حدب وصوب، وأهله خُدَّامٌ لضيوف الرحمن.

وبعد: صحيح أن عبد العزيز آل سعود قد غادر دنيانا الفانية إلى دار الخلد، راضياً مرضياً، إن شاء الله، بعد تلك الرحلة الطويلة الشاقة المضنية الممتعة في آنٍ واحدٍ، إذ ليس في الدنيا شرف أعظم مما شرفنا الله به من خدمة الحرمين الشريفين، إلاَّ أن اسمه سيظل خالداً إلى الأبد في أذهان شعبه.. فرحمك الله أيها البطل الفذ.. القائد الأسطوري، ونعاهدك أن نسير على الدرب في أداء الرسالة وحفظ الأمانة، نفديها بأرواحنا ودمائنا وكل ما لدينا من مال وولد. فالهم أحفظ لنا قيادتنا، وأدم علينا نعيمك.