اعداد – بخيت طالع الزهراني :
كان الحج ولازال محطة ثرية للأدباء والمثقفين , استنطق كوامن ابداعهم , وكان ملهما لهم على الدفقات الأدبية المعبرة , بما يحمله من صورة بهية بالغة الجمال والثراء والروعة .. وعلى الرغم من ذلك فما كتب عن الحج في مدونات الأدباء لازال قليلا قياسا بحجم هذه المناسبة الجليلة , وما تحمله في تضاعيفها من كنوز ومشاهد ومواقف مؤثرة تأخذ بالألباب .
لكن ثمة من كتب عن رحلة الحج وصورها في اجمل صورة وتحدث عن جوانب كثيرة من صورها الايمانية واخرون كتبوا خواطر ونوادر عن الحج , وغير هؤلاء من ترنم بأبيات شعر ما زلت تتردد في ذاكرة الكون , تصور ابعاد وجماليات هذا المنسك العظيم , ورؤية الكعبة المشرفة والمشاعر المقدسة , ولباس الحجاج الواحد الموحد ناصع البياض .
هنا في (البلاد) نتنقل سريعا بين جوانب مختلفة , ما كتبه عدد من الادباء عن الحج , عبر هذا التقرير الذي يشير الى كون الحج محرضا قويا لقريحة الادباء وابداعاتهم .
قصة الحج والأدباء
ولقد لفتت قصة الحج العلماء والأدباء والمستشرقين , فكتبوا الكثير مما لا يمكن الاحاطة به هنا .. يقول أحمد بن عبد المحسن العساف في مقال له نشر في مجلة البيان في عدد شهر ذي الحجة عام 1431هـ .. ننقل منه بعض المقاطع هنا , يقول :
( وقد ألَّف بعض العلماء والأدباء والبلدانيين والمؤرخين والمستشرقين كتباً عن رحلاتهم إلى الحج، فبعضها كتاب خاصٌّ عن رحلة الحج فقط، وبعضها كتاب رحلة عامَّة ضمَّنها مؤلفها حديثاً عن رحلته إلى الحج والحجاز. ) .
ويضيف : (واتسعت خريطة الكتابة عن رحلات الحج حتى شملت مؤلفين من الأندلس والمغرب، ومصر والشَّام، والهند واليابان، وتركيا وآخرين من عدَّة بلاد أوربية طبقاً لجنسية المؤلف أو مكان إقامته، واختلفت أحوال المؤلفين ما بين رحلة شخصية، أو مرافقة لأمير أو ملك، أو على رأس وفد دولة أو أميرٍ لموكب حجِّها، أو ضيفٍ على حكَّام الحجاز، أو صاحب مشروع سياسي كما في كثير من رحلات المستشرقين . وقد يسَّر الله أن انبرى بعض الباحثين والمؤسسات الثَّقافية لخدمة ونشر بعض كتب رحلات الحج، ويبقى الجهد الأعظم في استقصاء جميع ما كتب عن رحلات الحج، ونشره محقَّقا؛ ووضع فهارس كاشفة تعين القارئ على بلوغ مراده، ومعرفة المخطوط منها والمطبوع أو المفقود).
تتبع الرحلات
وشملت عناية بعض المؤلفين تتَّبع كتب رحلات الحج كما فعل الأستاذ الشَّيخ حمد الجاسر- رحمه الله- في مجلد واحد أسماه: (أشهر رحلات الحج) ، واختصر د . محمد بن حسن الشريف أكثر من عشرين كتاباً من كتب رحلات الحج القديمة والحديثة في أربعة مجلدات بعنوان : (المختار من الرّحلات الحجازية إلى مكة والمدينة النَّبوية) ، كما أصدر الأستاذ أحمد محمد محمود كتاباً عنوانه: (رحلات الحج) في ثلاثة أجزاء، وتحدَّث فيه عن جملة من كتب رحلات الحج خلال القرون الثَّلاثة الأخيرة ) .
وتعدُّ رحلة ابن رشيد السَّبتي من أفضل كتب الرّحلات التي دوَّنها العلماء لما أودعه فيها من متين العلم وأخبار ملاقاة العلماء ومذاكرتهم، وهذه الرّحلة مطبوعة محقَّقة في خمسة مجلدات، وعنوانها: (ملء العيبة بما جمع بطول الغيبة في الوجهة الوجيهة إلى الحرمين مكة وطيبة).
ومن الرّحلات المهمة في هذا الباب: رحلة الشَّيخ الشِّنقيطي صاحب أضواء البيان وعنوانها (رحلة الحج إلى بيت الله الحرام)، ورحلة محمد رشيد رضا بعنوان: (رحلة الحجاز)، ومن أفضل الرّحلات المعاصرة التي أملاها الأدباء (مرآة الحرمين) من تأليف اللواء إبراهيم رفعت وكان أميراً على موكب الحج المصري، ورحلة الأمير شكيب أرسلان بعنوان: (الارتسامات اللطاف في خاطر الحاج إلى أقدس مطاف ) .
لحظة اشراق
ومن الطريف أن رحلة الحج التي شرع بها الكاتب المصري محمد حسين هيكل كانت بسبب نصيحة من المسلم المجري عبد الكريم جرمانوس , الذي تبدلت حياته للأفضل بعد أن أدَّى فريضة الحج، ومن عظم بركة تلك الرحلة عليه أن وصفها في كتابه عن رحلة الحج بعنوان: (الله أكبر) بأنَّها : لحظة من لحظات الإشراق .
وقد وضع هيكل كتاباً عن رحلته أسماه: (في منزل الوحي) واشتمل على معان إيمانية لم تك معهودةً في كتاباته من قبل ) .
ومن الجماليات الباهرة والمبهرة في قصة الحج أن هذا النسك الجليل متخم بالعبر الكبار والدروس العظام , فمن وعاها واستحضرها وتمثلها في حياته فقد أفلح ونجح في أن يكون كيّساً فطناً , وحفيا بان يعظم الله مثوبته ويزيد بصيرته.
مشاعر الأدباء
والواقع أننا نجد كثيرًا من الشعراء , وقد صوروا مشاعرهم في رحلة الحج البهية ، ووصفوها لنا وصفًا دقيقًا وواقعيًّا.. ونأخذ من الشعراء المحدثين الذين أبدعوا قصيدة الحج لأمير الشعراء أحمد شوقي في رائعته التي يقول في مطلعها:
إلى عرفات الله يا خير زائر
عليك سلام الله في عرفات
ويوم تُوَلي وجهة البيت ناضرًا
وسيم مجالي البشر والقسمات
على كل أفقٍ بالحجاز ملائك
تزف تحايا الله والبركاتِ
ثم يأخذ في وصف الكعبة الغراء، والميزاب، وزمزم في عاطفة قوية متأججة، ورمي الجمرات في صور متتابعة، وكأنها تجري حركتها أمامك هذه اللحظة:
وفي الكعبة الغراء ركن مرحب
بكعبة قصادٍ وركن عفاة
وما سكبَ الميزاب ماءً وإنما
أفاض عليك الأجر والرحمات
وزمزم تجري بين عينيك أعينًا
من الكوثر المعسول منفجرات
ويرمون إبليس الرجيم فيصطلي
وشانيك نيرانًا من الجمرات
تصوير رحلة منى
وهذا هو الشاعر اليمني عبد الرحيم بن أحمد بن علي البرعي يشدو بقصيدة جميلة يصور حاله امام الراحلين الى منى , ويقول :
يا راحلينَ إلى منىً بقيادي
هيجتُمو يومَ الرحيل فؤادي
سرتم وسار دليكم يا وحشتي
والعيس أطربني وصوت الحادي
حرمتمُ جفني المنام لبعدكم
يا ساكنين المنحنى والوادي
فإذا وصلتُم سالمينَ فبلّغوا
منّي السلام أهيلَ ذاك الوادي
وتذكّروا عند الطواف متيماً
صبّاً فني بالشوق والإبعادِ
لي من ربا أطلال مكّة مرغبٌ
فعسى الإلهُ يجودُ لي بمرادي
إلى أن يقول :
لبسوا ثياب البيض منشور الرّضا
وأنا المتيم قد لبست سوادي
يا ربِّ أنت وصلتَهُم وقطَعتني
فبحقِّهِم يا ربّ حل قيادي
باللَه يا زوّارَ قبرِ محمّدٍ
من كان منكُم رائحٌ أو غادِ
لِتُبلغوا المُختارَ ألفَ تحيّةٍ
من عاشقٍ متقطِّع الأكبادِ
قولوا له عبدُ الرحيم متيِّمٌ
ومفارقُ الأحبابِ والأولادِ
صلّى عليكَ اللَهُ يا علمَ الهدى
ما سارَ ركبٌ أو ترنَّمَ حادِ
كتابات سعودية
وقد تناول عدد من الكتاب السعوديين الحج من باب أدب الرحلات كذلك، أمثال العلامة حمد الجاسر الذي ألف كتابا بعنوان: «أشهر رحلات الحج» ، وكتب عبد الله الحقيل كتاب «رحلات الحج في عيون الرحالة وكتابات الأدباء والمؤرخين»، وجمع الدكتور محمد الشريف كتب رحلات الحج، وغيرها.
كتابات عربية
كما ظهرت كتابات عربية مزجت بين وصف الرحلات والكتابات الأدبية الوجدانية، حيث ظهر الحج في أعمال أدباء عرب بارزين، أمثال الكاتب المصري محمد حسين هيكل، الذي ألف كتابه الشهير «في منزل الوحي»، واللبناني الأمير شكيب أرسلان، الذي وضع كتابا بعنوان: «الرحلة الحجازية المسماة : الارتسامات اللطاف في خاطر الحاج إلى أقدس مطاف»، والشاعر والروائي المصري إبراهيم عبد القادر المازني، الذي جمع ما دونه من رحلته للحج في كتاب حمل عنوان: «رحلة إلى الحجاز».
نحتاج المزيد
والواقع انه ليس مفهوما لماذا أغفل بعض الأدباء أدب الحج في كتاباتهم ، ولماذا لم يظهر أثر الحج ومجتمع الحج في الأعمال الأدبية إلا نادرا ؟ ، لكن لو توجه الحجاج أنفسهم لتدوين تجاربهم، ويومياتهم وانطباعاتهم، ولو كانت هناك جهة تتولى تشجيعهم وجمع نتاجهم ، ربما كنا حصلنا على ثروة أدبية ذات قيمة كبيرة.
نوادر الأدباء
وفي جانب أخر لم تخلو الكتابة في الحج وعنه , من بعض تناولات طريفة , وقد قال أحد الشعراء في شأن أولئك الذين يحجون بمال يشوبه الشك والشبهات , ولكنهم يعاندون أنفسهم ويتخيلون أن الله سيغفر لهم :
يحجَّون بالمال الذي يجمعونه
حرامًا إلى البيت العتيق المحرمِ
ويزعم كل منهم أن وزره
يُحط ولكن فوقه في جهنم
وفي هذا الصدد أيضًا يقول « أبوالشمشمق » :
إذا حججت بمال أصله دنس
فما حججت ولكن حجَّت العير
ما يقبل الله إلا كل طيبة
ما كل من حجَّ بيت الله مبرور
الأدباء والأضحية
أما الأضحية أو ما يطلق عليه العامة «خروف العيد» فإنه لم يسلم من سخرية القوافي وفكاهة الشعراء إزاء مواقف تدعو لذلك، فمن المعروف وحسب الشرع أن الأضحية لابد أن تكون من أجود اللحوم، خالية من أي عيب أو مكروه أو مرض، ولكن صاحب «معجم الأدباء» يروي لنا وصفًا رائعًا لخروف هزيل صاغه «محمد بن نصر الله الدمشقي الأنصاري» عندما جاء عليه عيد الأضحى وهو بمصر فقال:
أتاني خروف ما شككت بأنه
حليف هوى قد شفَّه الهجر والعزلُ
إذا قام في شمس الظهيرة خلته
خيال ثرى في ظلمة ما له ظلُّ
فناشدته ما يشتهي؟ قال: حلبة
وقاسمته ما شأنه؟ قال لي: الأكلُ
فأحضرتها خضراء مجَّاجة الثرى
مسلَّمة ما مسَّ أوراقها الفتلُ
فظل يرقبها بعين ضعيفة
وينشدها والدمع في العين منهلُ
النثر الأدبي
لكن النثر الأدبي لم يقف مكتوف الأيدي، بل راح يخرج ما في جعبته وينطلق في عالم الحج بمواقف وحكايات مختلفة.. فتحت عنوان «ثلاثون كبشًا تفدي ديكًا» .. يحكي الأصمعي أن رجلًا ولي قضاء الأهواز فأبطأت أرزاقه ولم يكن عنده ما يضحي به، فشكى ذلك إلى زوجته فقالت له : لا تغتم، فإن عندي ديكًا عظيمًا قد سمنته فإذا كان يوم عيد الأضحى ذبحناه، فلما كان يوم العيد أرادت المرأة الإمساك بالديك لذبحه فطار إلى بيت الجيران، وكلما أريد إمساكه طار إلى بيت آخر، فتساءل الناس عن ذلك.. وعرفوا الضيق الذي يعاني منه القاضي فقالوا: يا سبحان الله! كيف نضحي بالكباش وقاضينا يضحي بديك؟!
فأهدوا إليه ثلاثين كبشًا وهو بالمصلى لا يعلم شيئًا عن ذلك، ولما سار إلى منزله ورأى ما فيه من الأضاحي قال لامرأته: من أين ذلك كله؟! قالت: أهدى لنا فلان وفلان حتى سمت له الجماعة فقال لها: يا هذه احتفظي بديكنا فإنه عظيم الشأن عزيز عند الله إذ فداه بثلاثين كبشًا!
هذه من مواقف الحج والأضحية في عالم الطرائف والفكاهة من عيون أدبنا العربي وتراثنا العريق شعره ونثره.