كتب : سامي حسن حسون
كثيرة هي الكتب التي نمر عليها ونتركها بفعل انشغالنا وتراكم همومنا، نتركها خلف الذاكرة، ومنها ما هو جدير بالرعاية والنقد والإعادة أيضاً، لكنها تأخذ مكانها على الرفوف .والقصة القصيرة، هذا الفن العسير اللذيذ الممتع، تكاد أن تكون أكثر أنواع الإبداع تعرضاً للنسيان \" أو الإهمال ربما بسبب الضوء المبتسر الذي تلقيه أجهزة النقد عليه في العالم واهتمامها الدائم والمعروف بفن الرواية والمسرح والشعر وغيرها .
\" البلاد \" الثقافية طرحت سؤالاً محدداً على عدد من الأدباء والمفكرين حول إهمال النقد والنقاد للقصص القصيرة وقد سعدنا
بتجاوبهم وتفاعلهم مع طرحنا ..
بداية يقول القاص حسن الشيخ ومؤلف رواية \" الفوارس \":أنا اتفق معكم أن الرواية والمسرح والشعر يأخذ حظاً أكثر من النقد
والأضواء في صحافتنا المحلية .وسبق أن أشرت إلى أن للعمل القصصي أيضاً نصيب من الاهتمام وان قل وعن مجموعته القصصية
الأخيرة والتي جاءت بعنوان \" غيمة البدري \":في غيمة البدري استمرار للغة الحكي، فيها تأكيد على أسلوب القاص السردي، الواقعية السحرية .واعترف أن غيمةالبدري لم تنل من النقد ما يكفي .ولكن لن يمنعني من تكرار تجربة الكتابة والنشر القصصي .
ويؤكد القاص الشيخ : الحقيقة لم يوقفني هذا التصور عن النشر، وأنا أقدم على نشر مجموعاتي القصصية، رغم ان العديد من
المؤسسات الثقافية والإعلامية تناولت هذا الإشكال من قبل وأجبت عليه .وطالما ان الهاجس النقدي مطروحا فالسؤال الآن هل سيتوقف
القاصون عن الإبداع القصصي؟ لا أظن ذلك حقا .
واعترف القاص حسن الشيخ بأن الرواية تأخذ من النصيب النقدي ، والاهتمام الإعلامي الكثير، ولكن أنا أكتب بالإضافة للقصة
الرواية والدراسات الاسلامية والدراسات الادارية، ولن أتخلى عن أي شيء منها لمجرد الأضواء أو لركوب موجة عابرة، هناك روايات للإثارة الإعلامية ليس لها من الأدب إلا الاسم وهناك روائيون عابرون، وروائيات عابرات، يكتبون رواية وحيدة، متكئة على الإثارة الاجتماعية من اجل ابتزاز القارئ .وأن ساير بعض القراء والقليل من النقاد هذه الموجة العابرة، فان الأمر لن يدوم طويلاً .والأدبالأصيل يبقى على مر الزمن،
هذا النوع من الأدب الهابط ليس سوى فقاعات .
لا مكان للقصة القصيرة في الموروث النقدي وتقول د .سناء شعلان – الجامعة الأردنية – الأردن :
يبدو أنَّ القصة القصيرة في الأدب العربي لا تزال تعد ابناً غير شرعي، لا يحظى إلا بالقليل من الاعتراف والتقدير والتقريض، ولعل هذه المكانة التي لها الكثير من التفسيرات هي التي تقف خلف تراجع نقد القصة القصيرة في الوطن العربي إلى المقاعد الخلفية، لتكون مواطناً بدرجة دنيا بعد الرواية والمسرح والشعر وغيرها .
وهذا المشهد له الكثير من التعليلات، في مقدمتها الموروث النقدي العربي، الذي يحفل بالشعر وبالنصوص الطويلة، في حين لا مكان
لها للقصة القصيرة، في حين أن الكثير من النظريات الغربية المستوردة من الغرب المولع العرب بتقليده وباعتناق مذاهبه هي نظريات بنيت وطبقت ابتداء من الرواية التي شكلت المشهد الابداعي في الغرب في فترة من فتراته .والناقد العربي بقي تحت تأثير هذه النظريات التي تسجنه في الرواية دون غيرها .
وفي الوقت نفسه يظهر الناقد العربي في الغالب مطبقا لا مؤسسا أو مبتدعاً لنظريات نقدية خاصة قادرة على استيعاب المشهد
الابداعي العربي لا سيما القصصي منه، وهو في الغالب يهرب من الابتداع النقدي في القصة، ليركن إلى النظريات الجاهزة التي تكرس
في الغالب الرواية والمسرح والشعر .
وأيضاً القصة القصيرة في الوطن العربي تقدم نفسها مادة سائبة عرضة للتجريب وأحياناً للتخريب والتهشيم والتشظي إلى درجة
تجعل تناولها أمراً صعباً وشاذكاً وعبئاً على النقاد الأفذاذ فضلا عن متواضعي الأدوات والتلقي والموهبة والحساسية النقدية .
ويدخل الكم القصصي فضلاً عن النوعي في تفسير الظاهرة، فالقصة أصبحت – للأسف – في كثير من الأوقات بضاعة مطروقة
لكل هاو أو راغب في الكتابة أكان موهوباً أم لا، أم كان يحترف انواعاً أخرى من الفنون الكتابية أو التعبيرية أو الأدائية .
فنجد من هب ودب يدلي بدلوه في هذا الفن، ويعتقد أن مجرد انتاج قصص ما، واصدارها في مجموعة قصصية يجعله قاصاً مبدعاً، ويجعل ما قدمه هو فن قصة ناضج مستوف لكل عناصره، وبعد ذلك يغضب بشدة ان لم يقتل النقاد مجموعته القصصة مجموعاته دراسة ونقدا وتقربضا .
والحقيقة أن هذا الزخم الابداعي المزعوم عند الكثير من المدعين جعل القصة تتراجع الى المقاعد الخلفية، وقلما يتناولها النقاد إلا في حالات استثنائية لمبدعين مبرزين لهم تجارب واضحة وناضجة ومكتملة او شبه مكتملة، في حين يضربون صفحا في الغالب عن التجارب الجديدة والكثيرة التي لا وزن لها .
وهناك عامل آخر يدخل في تفسير هذا المشهد النقدي، وهو ان الروائيين في الغالب يكونون ممن لهم سوية ابداعية عالية خولتهم
لخوض غمار هذه التجربة بكل قوة، مما يجعلهم أهلاً للنقد، فضلاً عن وجودهم القوي في المشهد الثقافي والاعلامي في الغالب، في حين
يكون وضع القاصون مختلفا عن هذا الوضع في الغالب .
القصة القصيرة تمثل مرحلة انتقالية أما الدكتور عبدالله بن احمد الفيفي فيقول : في تقديري أن الأمر ليس رهين \" اهمال النقد والنقاد \" ولكن وراءه الاسباب الآتية :
فن القصة القصيرة \" الحقيقي \" فن مراوغ، وصعب، انتاجاً وقراءة، فالقصة القصيرة ليست تلك الحكاية المختصرة، التي كان يمكن أن
تكون قصة طويلة، أو رواية، ولكنها لعب أكبر على اللغة، ومزاوجة للشعر، كثافة، وترميزاً، وايحاءً، لذلك فإن القصة القصيرة أشد نخبوية من الرواية، ابداعاً وتلقيا .ومنثم فإن معاناتها الحضورية في الحقل الثقافي شبيهة بمعناة الشعر، لولا أن الشعر ما زالت تشفع له ذاكره موغلة في القدم، وجاذبية لغوية وروحية، تنقذانه مما يحل بالقصة القصيرة اليوم .
ويبدو أن كتاب القصة القصيرة أنفسهم قد انصرف معظمهم – إن لم يكن كلهم – عن كتابتها الى كتابة الرواية، لسان حالهم
أمثولة ذلك الكاتب الذي أطنب في رسالته، ثم اعتذر الى قارئه بأن \" لا وقت لديه للإيجاز \" .وربما اتجه بعضهم إلى كتابة القصة القصيرة جداً، لأنها تحقق التصاقها الأكبر – والمنقذ – بشعرية الشعر، ولا سيما بقصيدة النثر، وهو ما تطرقت إليه في بحث لي تحت عنوان \" مآزق الشعرية \" بين قصيدة النثر والقصة القصيرة جداً \" ، فكان ذلك الاتجاه إلى القصة القصيرة جداً مخرج بعض كتاب القصة القصيرة إلى قرائهم الجدد .
ولعل القصة القصيرة كانت تمثل مرحلة انتقالية بين جنسي الشعر والرواية – على الأقل في العالم العربي .وهو ما أدى الى انحسار
انتاجها منذ تسعينيات القرن الماضي لحساب تقدم \" الرواية \" من جانب و \" القصة القصيرة جداً \" من جانب آخر .
وهذه الأخيرة تأتي محاولة الإمساك ببنية وسطى، تحقق المعادلة \" السردية – الشعرية \" ، وتستجيب للحساسية \" الكتابية – القرائية
الأحدث .
لا خوف على أم السرد من أي عقوق
ويقول عبدالحفيظ الشمري القاص والروائي :
لا يمكن لنا ان نتصور ان يكون للنقد الادبي او الثقافي او الخيالي او المصلحي اي دور في نجاح العمل القصصي والروائي، وهذا ما يجعلنا في حل من ان نتتبع منعرجات الجدل حول مقولات ان النقد خدم او لم يخدم الحركة السردية على وجه التحديد .
فلا خوف على القصة القصيرة من ما نحسبه تجاهلاً ممنهجاً او عفوياً لها من قبل حركة النقد .ان كان هناك بالفعل حركة، فالفعل
القصصي اقام معادلته الجدلية \" اللغة – الحكاتية – الذائقة \" على نحو بديع اسهم في صياغة مفهومها الفني الجديد على نحو مميز،
اما ان كان هناك تدخل ما للنقد الادبي في المشروع فقد يكون من قبيل التأسيس لمجد النقد والصعود على لبناتها، او ان يكون من باب
المنجاملة او مقارعة الخصوم بما يحسب ان تحجيم لادوارهم، او تبيان لمثالبهم، او تلقف لزلاتهم .النقد لا شأن له بنضج القصة القصيرة،
هذا اولا، وتالياً ما اشرت اليه من انها تتوارى قليلاً، فهذا بالفعل حاصل وملموس، فمع ظهور فسحة الرواية، وتجلياتها، والثورة الهائلة في بناء المشهد السردي على تجليات الرواية التي باتت في موقف رائد يعكس نضجها وحضورها المميز في التلقي والذائقة .
ففي ظل هذه الهجمة الروائية تبقى القصة القصيرة محافظة على هامشها الرحب بحرفية ودرية كتابها الذين يصعدون عادة لمجد
الرواية من خلال عطائهم القصصي، فلا خوف على ام السرد من اي عقول محتمل او مفترض طالما انها تتكئ على اصل الحكاية وفصلها
القاصة والصحافية والتشكيلية عبير يونس الحائزة على المركز الثالث لجائزة غانم غباش للقصة القصيرة عن قصتها للابيض تدرجات
اخرى ..والمركز الثاني لجائزة الشارفة للابداع العربي عن مجموعة تداعيات اخيرة تقول :
اعتقد ان الازمة تعود الى حال الحركة النقدية في الوطن العربي، فالى الآن لم تفرز المجتمعات العربية نقادها، وبالشكل العام قلة
هم النقاد المتفرغون للنقد، حيث كتب بعض الروائيين او الشعراء او حتى الفنانين التشكيليين في النقد، من واقع تجربتهم، ومن واقع
النظريات النقدية التي يمكن ان نقول انها مستوردة، ولم تتجاوز هذه الكتابات في الكثير من الاحيان الانطباعات، وخاصة النقد التأثري الذي ينشر في الصحف، ومن خلاله مارس العديد من صحافيي الصفحات الثقافية مهمة النقد التي لم تخل من المجملات، ولهذا كان من الطبيعي في ظل هذه الظروف ان لا يشتغل النقاد على الكتابة القصصية، لان جنس الكتابة القصصية بالاصل هو الاقل انتشارا
في عالمنا العبي، يأتي بعد الشعر والرواية، وتناوله نقديا لم يكن بقصد ابدا انما اولا واخيرا لحال النقد في عالمنا العربي، وللاهواء الشخصية والمزاجية التي تمارس في احيان كثيرة حين يتم تناول احد الاعمال الابداعية، وهذا ما جعلنا نقرأ الكثير من الدراسات النقدية، التي جاءت اهم بكثير من العمل ذاته، او ان نقرأ استعراض الكتاب لمقدرتهم النقدية بعيداً عن جودة النص .مع العلم ان العرب قديما كانوا قد خضعوا لمدارس نقدية تخص شعرهم، وكان النقد كما يقال لغويا صرفاً وعربيا صميما، بعد ان حدد اللغويون هوية الشعر وضوابطه بعكس ما يحدث في الوقت الراهن .
على العموم عندما يكتب المبدع لا يفكر حينها بأن نصوصه ستكون عرضة للنقد، وان كنا كما يرى البعض لم نصل لمستوى الاستمتاع بالعمل نفسه فكيف سننتقل لمرحلة النقد، اذا الخلل في المشهد الثقافي لا يمكن ان يتجزأ .
النقد الأدبي يراوح مكانه ويقول الكاتب الصحفي القطري د .احمد عبدالملك انا اعتقد بأن النقد الادبي – كظاهرة عامة – مازال يراوح مكانه فيما يتعلق بالادب عامة، ولقد تحول القراء المجدون – لربما – من اقصة القصيرة الى الرواية، تماما كما تم تح،ل البعض الكثير من الشعراء الى الرواية ..كون هذه الايخرة اكثر عمقاً وغوصاً في دقائق الامور، وتجسد المشاهد اكثر مما تسمح به القصة القصيرة او القصيدة .
كما ان دور النشر العربية اخذت تنحى نحو الرواية بحكم انها الاكثر مبيعا ..ولو اننا نشاهد قصصاً قصيرة تعنون بانها روايات وهذا
يضيف الى الخلط العجيب في المفاهيم الادبية والتجارية في اوساط الناشرين العرب .
انا اعتقد بأن وسائل الاعلام العربية – التي تهمل الادب عموماً – لها دور في ما آلت اليه حال القصة القصيرة؟؟ رغم محاولات بعض
الاندية الادبية او مجالس الثقافة وضع مسابقات او ورش عمل محددة لتشجيع هذا الفن .
ان نقادنا \" الكبار \" لا يلتفتون الى ادب القصة القصيرة ..وهذا يؤدي الى اهمال القصة القصيرة صحافياً وتلفزيونياً رغم ان بين هذه
القصص ما يمكن ان يصلح كمادة مهمة في اعمال تلفزيونية واذاعية .قد نستطيع ان نعيد الوهج الى القصة القصيرة عبر مسابقات اقليمية ومحلية ..وبث روح التأليف القصصي بين طلابنا في المدارس ..فحركة النقد دوما تأتي بعد حركة الابداع ..وما لم نستطع تحريك آلة الابداع في هذا المجال، فان آلة النقد ستبقى جامدة وسيعلوها الصدأ .