متابعات

الأخطاء الطبية .. إهمال بشري أم حادث قدري؟

جدة – وليد الفهمي

يقول المثل اللاتيني القديم “أن تخطئ يعني أن تكون بشرًا” فالكمال لله وحده، ولأن الرياضيات تخبرنا أن الخطأ البشري حتمية إحصائية، فليس بدعًا إذن أن تكون الأخطاء الطبية شرًا متواترًا في جميع أنحاء العالم، وإن كانت بنسب متفاوتة، ولعل بعض الدول تتفاخر بمدى قدرتها على ضبط هذه النسبة، بوضع الأنظمة الصارمة، وتطبيقها بدقة وحرفية، حتى تصبح الأخطاء نادرة الحدوث، فغاية ما يصبو إليه العقل البشري ليس أن يصل للكمال بل أن يقلل نقصانه.

بينما تفشل بعض الدول في السيطرة على نسب هذه الأخطاء، مما يسمح لكثير من الحكايات التي قد تباري الخيال إثارة في الحدوث، لتتلقفها الصحف بشراهتها تجاه كل ما هو مثير، وحقيقة أن المؤسسات العاملة بالصحة، سواء التابعة منها لوزارة الصحة، أو القطاعين الحكومي والخاص، جميعها تعمل على تطوير ما لديها من أنظمة، فيما يخص الأخطاء الطبية، ولكن المنهجية تظل مختلة، والحلقة ما تزال مفقودة بين المريض ومن يتولون علاجه، لأسباب عدة تتراوح ما بين نقص الوعي لدى المريض، وتهاون بعض القطاعات الصحية في التثقيف، لدرجة أن تجد الكثير من العاملين في أقسام شؤون المرضى، يجهلون تفاصيل قوانين حقوق المرضى. كما قد يتسبب أحيانًا ضغط العمل في عدم اعتناء العاملين بالصحة لإفهام المريض وإطلاعه على كامل ما يمكن أن يحدث له أثناء العلاج؛ مما يسبب الكثير من اللغط والخلافات في حال حدوث أي نتيجة غير مرغوب فيها.

وباء منتشر:
وفي هذا السياق يقول الدكتور ممدوح عشي، استشاري جراحة التجميل والحروق والليز، إن الأخطاء الطبية منتشرة في أنحاء العالم، بل وفي أكثر دوله المتقدمة طبيًا وهي أمريكا، حيث تسجل فيها سنويًا أعلى نسبة أخطاء طبية على مستوى العالم. نافياً أن يكون ثمة ظاهرة محلية تتمثل في تفشي الأخطاء الطبية في مستشفيات المملكة على وجه الحصر.

وقال عشي إنه يرى أن الاعلام هو السبب الرئيس في مثل هذه القضايا، مضيفًا “مع احترامي لجميع الإعلاميين أجد هناك جهلا كبيرا لديهم و خلطا بين الأخطاء الطبية والمضاعفات التي هي جزء من مهمة الطب ومعترف بها علميا”.

وأشار عشي إلى أن الخطأ الطبي ينقسم إلى عدة أجزاء فمنها ما يتعلق بالخطأ البشري والناتج عن ضغط العمل والإرهاق، ومنها ما ينتج عن قلة الخبرة أو التهور والتسرع في اتخاذ القرار.

الوعي الصحي:
ويعتبر عشي أن نشر الوعي والتوعية بحقوق المرضى أو الممارس الصحي له دور في تقليل الأخطاء، وأنه يجب الاعتماد على الوسائل الإعلامية على اختلافها لنشر بعض القضايا المتعلقة بالفهم الصحيح للأخطاء الطبية. مؤكدًا على أن التدريب الجيد ووضع نظام صحي صارم، هو أفضل وسيلة لتفادي الأخطاء الطبية.

وأردف بقوله: “لا أرى أن هناك أي دور للإعلام في الأمور الطبية، وعليه عدم التدخل في مناقشة أي قضية طبية، بل يجب أن يقتصر دوره فقط على نشر نتائج التحقيق الطبي بعد الانتهاء من القضية”. واختتم حديثه قائلًا إن تعامل الجهات المعنية بالصحة مع قضايا الأخطاء الطبية تتم من خلال “اللجنة الطبية الشرعية” التي تعالج كافة القضايا الطبية بصورة علمية وراقية، ولكن نظرًا لكثرة الشكاوي لديهم، والتي لا توجد في معظمها أخطاء طبية، يتباطئ إيقاع سير العمل لديهم.

فقاعة إعلامية:
فيما أشار دكتور إبراهيم الرفاعي، أخصائي التغذية العلاجية لأمراض الأطفال، إلى أن تداول ارتفاع نسبة الأخطاء الطبية بالمملكة هو مجرد فقاعة ليس لها أساس، مؤكدًا أنه حيثما كان العمل كانت الأخطاء، حيث يقول: “العمل في المجال الطبي هو أحد تلك المجالات التي يوجد بها أخطاء في جميع دول العالم، وليست السعودية فحسب”. وهو يرى أن الفارق يكمن فقط في أن الدول المتطورة والمتقدمة في المجال الطبي تعمل دائمًا على الحدّ من حدوثها، وتقليل آثارها قدر المستطاع.

مكافحة الأخطاء
ويرى الرفاعي أن الدول المتطورة تكافح الأخطاء الطبية بعدد من الآليات والاستراتيجيات منها: بتأهيل الكوادر البشرية، ووضع المناهج العلمية وتطويرها وتحديثها باستمرار وفق أحدث ما توصّلت له الأبحاث في تلك المجالات، كما تستعين تلك الدول على مكافحة الأخطاء البشرية بالعمل على تأهيل الكوادر على أعلى مستوى قبل انخراطهم في الميادين الطبية والمستشفيات “وهنا تبدأ الاختلافات بيننا و بينهم” كما يقول.

ويشير خبير التغذية العلاجية إلى أن الدول المتقدمة لديها اهتمام كبير جدًا، ورقابة مستمرة ودقيقة على كافة الخدمات الطبية، داخل المنشآت والمؤسسات، كما أنها تستقطب الكفاءات وتوفر كافة الوسائل التي تساعدهم على النجاح، كما تعمل على تعليم العاملين وتطويرهم بشكل مستمر، كما توفّرلهم أحدث التقنيات مثل الأجهزة المتطورة والتدخلات العلاجية الدقيقة التي تقلل من التدخلات البشرية، واستخدام التقنية في الإجراءات والتدخلات الطبية، وكل هذه العوامل بالطبع ساهمت في تقليل حدوث الأخطاء الطبية قدر المستطاع، مضيفًا: “وهذه هي الخطوات التي نحتاجها نحن لنصبح في مصافّ الدول المتقدمة في مجال الطب والخدمات الطبية”.

ويرى الرفاعي أن الذين يظهرون في وسائل الإعلام، مطالبين بحقوقهم؛ جراء تعرضهم لأخطاء طبية – قد تكون بدائية – أو لإهمال طبي، كان يمكن تداركه، أن هذا من أبسط حقوقهم في رأيه؛ فالمخطئ يجب أن يُعاقب.

أسباب الأخطاء:
ويعدد الرفاعي أن أسباب الأخطاء الطبية تتمثل في انعدام الخبرة أو الكفاءة من قبل الطبيب الممارس، أو الفئات المساعدة له، ناهيك عن انعدام وضعف الرقابة، وضعف تطبيق القوانين الخاصة بالمنشآت الطبية، والقرارات التي قد تمنع حدوث وتكرار الأخطاء الطبية مرة أخرى. موكداً على ضرورة رفع مستوى نشر التوعية بحقوق المريض أو الممارس الصحي، فلهذا – حسب رأيه – دور في تقليل الأخطاء أو الاتجاه للجهات الإعلامية لنشر القضايا المتعلقة بالأخطاء الطبية.

ويرى الرفاعي أن الأخطاء الطبية تقل كلما زاد وعي المجتمع تجاه حقوقه وواجباته ومسئولياته، كأن يعرف أن من حقه الموافقة على الإجراء أو الخدمة الطبية قبل تقديمها و أيضًا بأن يعلم أن من حقه السؤال عن الحلول الطبية البديلة – الأقل خطورة – أو الأكثر أمانًا بأقل مضاعفات وذات نسبة نجاح أعلى ومشاركته في اتخاذ القرار – في الحالات غير الحرجة، ولا التي تحتاج تدخلات طبية عاجلة. ولكنه يؤكد أن النسبة الكبرى في تقليل الأخطاء الطبية تعود للمنشأة و كفاءاتها التي يجب أن تكون على أعلى مستوى من الاحترافية.

واسترسل الرفاعي قائلًا: “للأسف مشكلتنا الكبرى ليست مع اتخاذ القرارات، بقدر ما هي مع عدم تنفيذها بالشكل المطلوب، كذلك هناك مشكلة أخرى أعظم وأكبر، وتعود بنا لنقطة ضعف الرقابة مجددًا، فنلاحظ أن القرارات التأديبية أو القرارات المتعلقة بالأخطاء الطبية، لا تصدر إلا بعد مطالبات من المتضررين وضجة إعلامية في مواقع التواصل للمطالبة بالحقوق وملاحقة المخطئ” وهو ما يراه مشكلة كبيرة في حد ذاته، حيث يقول: “فكم من خطأ طبي لم يُخبر به ذوو المريض، وكم من خطأ طبي كان ضحيته من لا صوت له، وكتم عبراته وأخفاها لاعتقاده أن لا ناصر ولا مُقتصّ لحقه ممن أخطأ في حقه!”.

ويشدد الرفاعي في الوقت نفسه على أهمية المتابعة والرقابة الدائمة من الجهات العليا من ذوي الاختصاص؛ للوقوف على جميع ما يحدث داخل المنشآت الطبية، ومنع الإهمال والتساهل في أرواح المرضى، للحيلولة دون الكثير من الأخطاء البدائية التي قد تفقدنا أرواحًا وتكلف الدولة كثيرًا من الأموال، لمعالجة ما قد يكون منع حدوثه من البداية أقل بكثير من تكاليف إصلاحه. وعبر عن أمله في أن تؤتي جهود معالي الدكتور توفيق الربيعة وزير الصحة، ثمارها في هذا الصدد.

الخطأ والعرض:
وفي سياق متصل، أشار الدكتور سعيد بن عبدالوهاب عسيري، استشاري الطب النفسي واضطرابات المزاج، إلى أنه يجب التفرقة بين الأخطاء الطبية والأعراض الطبية المصاحبة لأي برنامج علاجي، سواءً كان جراحياً او طبياً؛ إذ أن الأخطاء الطبية تحدث نتيجة إهمال مباشر أو غير مباشر للمريض سواءً كان المتسبب طبيباً أو أي ممارس من ضمن الفريق الطبي المعالج.

ويختلف هذا – وفقًا لعسيري – عن الأعراض المصاحبة للعلاج التي يتعرض لها المريض باختلاف النسب بين المرضى وهي مثبته علميًا، واثبتت بعض الدراسات أنه نادرًا ما يخلو أي علاج طبي أو جراحي من أعراض جانبية مصاحبة، وأنه لا سبيل إلى القضاء عليها قط ليس في المملكة فحسب بل وجميع دول العالم أيضًا، مضيفًا بقوله: “لكن بمقدورنا التقليل من نسبة حدوثها؛ باتباع كافة الاجراءات اللازمة، والمعترف بها طبياً، ومن خلال المتابعة المستمرة من كافة الاجهزة الطبية والفنية والادارية”.

وقال رئيس قسم الأطفال بمستشفي الصحة النفسية، إن الإعلام أصبح في وقتنا الحاضر لا يقتصر على المنابر الإعلامية الموثوقة فحسب، بل أصبح هناك العديد من مواقع التواصل الاجتماعي، التي تقوم بدورها بتسليط الضوء على هذه الموضوعات بدون أي احترافية أو تقصٍ للحقيقة، وإنما أصبح الهدف – عند بعض الناس – هو ايصال الخبر ليصبح حديث الرأي العام. لكن عضو الجمعية السعودية والجمعية الامريكية للطب النفسي يستدرك ويقول: “كي لا نبخس الإعلام حقه فهو عنصر قوي لملاحقة كل متهاون في صحة المرضى عندما يتوجه بالطريقة الصحيحة، وتستقى معلوماته من مصادر موثوقة”.

اللجوء للقضاء:
وقال أحمد عجب، المستشار القانوني، إن إحالة قضايا الأخطاء الطبية للمحكمة ممكنة متى رأى ذوو المتوفى أو من لحقته إعاقة أو ضرر أن ذلك ناجم عن خطأ طبي أو إهمال مهني، بصورة أفضت إلى الحالة التي أصبح عليها المريض في تطور سريع وغريب لحالته بخلاف النتائج المتوقعة .

وعن الإجراء الأولي أجاب عجب قائلاً: “يجب تقديم شكوى لمدير الشؤون الصحية، الذي يتولى من جهته التحقيق حول الخطأ أو الإهمال أو التراخي المدعى به، ومن ثم إصدار قرار بهذا الخصوص، فإن ثبت الخطأ المهني الصحي بحق المتهمين أو أحدهم، أحيلت القضية للهيئة الصحية الشرعية لنظر الحق الخاص والعام وفقًا للمادة 27 من نظام مزاولة المهن الصحية والتي تؤكد على أنه كل خطأ مهني صحي صدر من الممـارس الصحي وترتب عليه ضرر للمريض؛ يلتـزم من ارتكبه بالتعويض وتحدد الهيئـة الصحيـة الشـرعية مقـدار هـذا التعويـض” .

أصناف الأخطاء:
وأشار عجب إلى أن الأخطاء الطبية عديدة ومتنوعة، ويعـد مـن قبيــل الخطأ المهني الصحـي الحالات التالية : الخطأ في العلاج، أو نقص المتابعة، أو الجهل بأمور فنية يفترض فيمن كان في مثل تخصصه الإلمام بها، أو إجـراء العمليـات الجراحيـة التجريبيـة وغيـر المسـبوقة علـى الإنسـان بالمخالفـة للقواعد المنظمـة لذلك، أو التقصير في الإشراف، أوعدم أخذ الاستشارة الطبية من المختصين والتي تستدعيها الحالة، كما أن الأخطاء الطبية تشكل بفترة من الفترات وليس على الدوام ظاهرة تشد الانتباه إليها؛ ربما لتزاحمها في تلك الأثناء أو لزيادة الرقابة أو وعي الناس تجاهها، مما يزيد من احتمالية كشفها، والابلاغ عنها لكنها تظل فترة من الزمن غائبة، الأمر الذي لا يجعل منها متفشية بشكل عام ودائم. مشددًا في الوقت ذاته على أن كثير من المستشفيات لا يزال يقدم خدماته على أعلى مستوى وسمعته النقية تسبقه إلى الناس والمرضى المحتاجين للعناية .

عقوبة الأخطاء:
وعن العقوبة النظامية التي توقع على الممارس الصحي لإخلاله بالتزامه، وثبوت الخطأ عليه، فهي مـع عـدم الإخلال بأي عقوبـة أشـــد منصـوص عليهـــا فـــي أنظمـــة أخـــرى، يُعاقـــب بالســـجن مـــدة لا تتجــاوز ســتة أشــهر، وبغرامــة لا تزيــد عــن مائــة ألــف ريــال، أو بإحــدى هاتيــن العقوبتيــن، كما وأنه دون الإخلال بالعقوبة الجزائية والمدنية، يكون الممارس الصحي محلًا للعقوبة التأديبة والتي تتراوح بين الإنذار أو غرامة عشرة الآف ريال، أو شطب ترخيصه واسمه من سجل الممارسين الصحيين. متمنياً عدم التهاون في تطبيق أقصى العقوبة النظامية على الممارس الصحي وعلى المستشفى الذي وقعت فيه الحالة؛ لأن أرواح الناس ليست لعبة .

لجنة حيادية
فيما أشارت إدارة التواصل والعلاقات والتوعية بصحة جدة إلى أن السياسة الإجرائية للوزارة في الشكاوي ضد المنشآت الصحية الخاصة، تعتمد على تلقي الشكوى من المستفيدين المتضررين أو ذويهم، حيث يتم تشكيل لجنة طبية حيادية للتحقيق في الواقعة، من خلال الاستماع إلى صاحب الشكوى والمنشأة، ومن ثم يتم تقييم الإجراءات الطبية التي اتخذها الطبيب، بعدها يتم رفع التقرير إلى اللجنة لاتخاذ القرار المناسب وإبداء الرأي حول ما إذا كان هناك خطأ طبي أو تقصير أو إهمال، و الاستعانة بأخذ رأي طبيب آخر فى حالة وجود مشكلة حدثت ولم يقتنع الشاكي أو المريض بإجراءات الجراح .

كما أنه بالإمكان الاتصال على الرقم المجاني 937 (الخدمة الهاتفية) والذي خصصته وزارة الصحة لاستقبال الاستفسارات والشكاوى والاستشارات الطبية، ويعمل على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *