الأرشيف شذرات

الأحمري المخرج المُجدد

منذ أن صُنع المسرح منذ القدم , فإن صناعته جاءت بشكل تكاملي و بروح تفاعليه عالية , و لو ألقينا نظرة فاحصة على مسرحنا السعودي , لوجدنا أن هناك أسماء قلة لمخرجين مسرحيين ساهموا في نقل المسرح للأمام بواقع سنوات ضوئية , و أنتج مشوارهم الذي تكلل بعطاء غير مسبوق مجموعة قادرة على صنع الفرق , أحمد محمد الأحمري , الرجل الذي قضى أربعين ربيعا لخدمة المسرح السعودي , مخرج يفرض عليك أن تجعله في قمة الهرم للعملية التكاملية لإنتاج عرض مسرحي فائق و متجاوز , أعتقد أن أحمد الأحمري من وجهة نظري هو سر من أسرار نجاحات ورشة العمل المسرحي , لأنه حقيقة من المسرحيين الفطريين الذين تشرفت أنا شخصيا بالعمل معهم .
أحمد الأحمري العاشق للمسرح , قدم تجربة إخراجية و إنسانية رائعة , و أعتقد أنه كان حافزا مهما و ملهما لنصوص فهد ردة , و عندما نذكر فهد ردة الحارثي , يجب علينا أن نذكر مباشرة أحمد الأحمري و العسيري و مساعد و سامي و جمعان و بقية ورشة العمل , لكن التوأمة بين الأحمري و فهد رده , هي سر مستقل لإبراز و توظيف الممثلين بشكل يدعوك فعلا إلى التأمل في قدرة الأحمري على التوظيف و الاختيار , يقول كبير منظري المسرح في القرن العشرين \" قسطانطين ستانلافسكي \" إن علاقة الفن بالواقع هي علاقة قسرية لا اختيارية , فالأحمري ساهم في توظيف الواقعية بشكل بسيط و غير متكلف , فهو حين يرغب في جعل المسرح ممتلئ بالأشياء فهو يسيطر عليه بحرفية عالية و ينقل لك الواقع بشكل مختلف , يجسد لنا الواقعية دون أن تشعر بها , بشكل متقن و مدروس و بشكل يجعلك تقول بشكل بديهي بأنه ليس في مستطاع العقل البشري الذي يسعى للعلوم أن يرى ما هو ليس حقيقة موجوده , لكنه جعل العقل البشري السليم يغوص لتفاصيل العمل بشكل مستحب دون أن يتكلف في أزمنة الأشياء و نقلها بشكل كامل.
لو فكرنا مليا في الحديث الذي سردته عاليه , لقلنا بأن هذه الجوقة المختلفة مترابطة و منسجمة و متجانسة , و كأننا أمام نسيج عضوي متسلسل بشكل يدعوك للتأمل , لكن يجب علينا أن لا نهمل تصنيفات أرسطو لعناصر العرض المسرحي الذي صنفها في ست مراتب منسجمة بشكل رائع و هي :
1-الحبكة ( و الحبكة تعني الحدث المسرحي )
2-الشخصية المسرحية و ليس الممثل ( أي مكنون الشخصية و أبعادها الثلاثة )
3-الفكر أو الحكمة
4-اللغة
5-الموسيقى
6-المنظر
من خلال ما تقدم فإن هذه العناصر هي عناصر أرسطية ليست قانونا يجب علينا العمل بها , بل يجب على المخرج الذكي أن يثور بشكل كبير جدا ليقدم لنا مسرحا مختلفا , و هذا ما ميز الأحمري من خلال اخراجه للعروض المسرحية , فهو يقدم أشكالا متعددة من المدارس المسرحية فلو تحدثنا عن البابور لوجدنا العمل المجنون بكافة تفاصيلة و حركة المجاميع التي وظفها الأحمري بصورة متميزة , ثم الانتقال لمرحلة التجريب في الضوء أو في الصوت من خلال اجراء عملية \" المسح الاختباري \" الذي تجريه ورشة العمل المسرحي قبل بداية أي عمل مسرحي .
الأحمري استطاع فنيا أن ينشئ ما يسمى بالاتصال الفني بين الخشبة و بين المتلقي , و أقحم المشاهدين في العمل المسرحي بشكل تام , و جعلهم يفكرون و يحللون , و كان دائما يدهشك بقدرته على توظيف المسافات الجمالية بشكل رائع , بل و خَلَق للمشاهد جوا من الاتصال المسرحي المكثف من خلال المسافة النفسية التي تحدث عنها الفيلسوف المسرحي أدوارد بولو .
ختاما , الأحمري من خلال اخراجه للعمل المسرحي , جعل للفراغ قيمة حقيقية , أعني هنا الفراغ المسرحي , لأنه جعل الفراغ أمرا محسوسا بالنسبة للمشاهد , و حقق من خلال المسرحيات التي أخرجها اتصالا مسرحيا هائلا بين المتلقي و بين الخشبة و استطاع أن يجعل لحظات العمل المسرحي متلاحقة لتساهم في بناء عرض مسرحي هائل , و لا أعتقد بأن الأحمري في عروضه المسرحية قد أصاب المتلقي بالخمول , بالعكس فهو يجذبه إلى داخل الزوايا الحداة و المنفرجة , و يوفر لهم قاعدة هائلة من التصنيف و التأويل , و النقد كذلك , كل هذا ينشأ داخل العرض المسرحي الذي لا يستطيع اخراجه إلا الأحمري تحديدا , و كأن الأحمري يقول لنا , هكذا يمتلئ الفراغ في أي بناء مسرحي , و ليس هناك أي طريقة أخرى.
إبراهيم الحارثي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *