الأخيرة

إنه الرجل .. الغاضب في صدقه

بقلم: علي محمد الحسون

 

•• هناك – لحظات – تمر بالإنسان فيتوقف عندها إما مبهوراً لغرابتها.. أو حزيناً ايضاً لغرابتها التي لم تكن في الحسبان.. وهناك أناس تلتقي بهم فيمرون دون أن يتركوا ملمحاً في حياتك أنهم من أولئك الذين لا يملكون من قوة التأثير شيئاً فهم كالطعام الذي ليس به ملح.. وهناك أناس لا يمكن أن يمروا في حياتك دون أن يعلموا في خلدك معلماً تعيشه في كل لحظة من حياتك أولئك الناس هم القادرون على صياغة وجدانك وهذا الذي نتحدث عنه اليوم يجعلني أعود الى بدايات التقرب منه.. حيث كان ذلك في حدود عام 1385هـ ان لم تخني الذاكرة وكان هو ملء السمع والبصر صوتاً يحمل في ملامحه أصوات أولئك النجوم في عالم “الكلمة” التي تشع في الفضاء العربي أيامها.. وهو القادم من بلاد الصحافة بنجومها وشداتها وسماء رجالات الفن بكل صوره والساسة بكل تعقيداتهم انها مصر الخمسينات والستينات.. وكان هو قد رسخ اسمه منذ بدايات – الرائد – ذلك المطبوع المبهر الذي اختفى في عام 1383هـ. ليكون احد كتاب “المدينة” كنت اتابعه وألهث خلف حرفه مستمتعاً بأسلوبه الذي يأخذك في مسالك من الفن المبهج، بتلك الحرفية والبساطة بل والشفافية التي هي طابعه الشخصي حتى الآن، انه يشعرك بأن امامك “طفلا” في إيصال ما يريده اليك : هكذا كان انطباعي عنه في ذلك “السن” الصغير وذلك “الفهم” لما اقرأ.
وكان يوم اللقاء الاول به يوماً مشهوداً في حياتي قد لا يتذكره هو الآن لكثرة ما مر به من مواقف اذكر ان ذلك كان في منتصف شهر شعبان من عام 1385هـ “كأنه هذا الشهر” عندما أتيت من المدينة المنورة حاملا معي بعضا من ورد ونعناع المدينة كهدية له الى مقر عمله قرب صلاة المغرب حيث كان يتواجد في عيادته في رأس شارع قابل والمشرفة على شارع الملك عبدالعزيز الشارع الشهير ايامها بحوانيته الفخمة وهو موقع له دلالته التي لا يخطئها الفهم .. خطوت اولى خطواتي داخل العيادة والتي كان بها ثلاثة في الانتظار رحت اراقب تحركاتهم كان احدهم يضع يده على فمه كأنه يريد ان يسكت ما يشعر به من ألم في أسنانه.
بعد انتظار أحسبه طال – سألني “التمرجي” او “العامل” ان ادخل على – الدكتور وقد وقفت وبيدي ذلك “الزنبيل من الخوص” وفي داخله الورد والنعناع. كان هو يجلس على مكتبه وقف محيياً مرتدياً بنطلونا رصاصي اللون وقميصا ابيض قصير الاكمام، ارتبكت قليلاً وعندما رأي ما أحمله امسك بيدي واخذ بي الى “البلكونة” في احتفاء شديد فأنا قادم من المدينة المنورة واحسب ان عواطفه سخية امام ذكر المدينة المنورة حاملاً هذه الهدية البسيطة الكبيرة في معناها كما قال لي يومها وهو يشعل لفافة “الكنت” التي كان يدخنها راح يحدثني كأنه يعرفني منذ سنوات بروحه الشفافة ومن يومها ارتبطت علاقتي القرائية به تذكرت كل ذلك وانا اتابعه ذات مرة في احتفاله بتوقيع أحد كتبه وهو في ذلك الانسجام الروحي بفرحه الطاغي كفرحة الأطفال وهو يرى ذلك الجمع الكبير الذي حضر لمشاركته الاحتفاء بالكتاب الذي يتحدث عن شخوص جداوية شعر بها وأحبها، انه ابن الشاطئ عبدالله مناع. كان أيامها وهو يلتقي بي في بلكونة عيادته غارقاً في وهج النجومية لا يتوقف أمام من يعارضه بل يتفهم ذلك منه كان أقرب الى التسامح منه الى الغضب ذلك التسامح الذي كما يبدو لي – ترمد – قليلا لديه يمكن لتغير الأيام.. التي خذلته في تطلعاته.. لكنه لازال صادقاً فيما يقول وهذا الاندفاع منه له علاقة صادقة في مشاعره التي لا يخفيها وأن كان ذلك الاندفاع يزعج البعض منه لكن ماذا يفعل وهذه هي الحياة التي يراها متلونة أمامه وهو الذي استقبلها بكل عفويته فاعطاها كل ما يملك وأن احس بانها خذلته كثيراً فأخذت منه كل شيء إلا شيئاً واحداً هو كرامته واعتزازه بنفسه وتلك هي ضريبة المحتفظين بما يؤمنون به.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *