إن قدر الأمة الإسلامية اليوم أن تعيش في هذا العصر الذي يبشر الناس فيه منذ عقود بنهاية الجغرافيا والتاريخ والحدود، وأن يتواصل العالم كله عبر معطيات واحدة، وقنوات اتصال مباشرة تقطع كل الأرض في ثانية واحدة، وذلك كله بعث من الفرح والخوف والتوجس ما صار شائعا ومعروفا، بيد أن الأمم بكل تفاعلاتها صارت تحسب كل الحساب لهذه اللغة الاتصالية والحوارية التي باتت تسود وتفرض صوتها وقوتها في كل قطاع واتجاه، وتخاف من البقاء وحدها.
وحتى تلك الجزر البحرية المعزولة –جغرافيا- في العالم أصبحت تشارك العالم مشاكله ومسائله وتتبادل مصالحها معه، فهذه الجزر البعيدة حديثة العهد بالنظام والسياسة تقطع مسافات واسعة تجاه التواصل والانفتاح؛ فالتواصل يعني الوجود والتأثير والمشاركة في القرار والرأي، والقطيعة تعنى البعد والانعزال والتخندق في موقع المسيّر المدروس عوضا عن موقع المشارك والفاعل.
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بُعث يدور على نوادي مكة، وحين أوذي ذهب إلى الطائف وعرض عليهم دعوة الإسلام ودينه؛ فرموه وآذوه، وكل ذلك لم يجعله معزولا، بل سعى إلى القوم مرة أخرى، وذهب إلى سوق عكاظ فكان يدور على البطون والقبائل يدعوهم إلى هذا الدين الحنيف، ولم يقل إن سوق عكاظ موطن شرك ووثنية ينبغي اعتزاله والبعد عنه.
وأصرح من ذلك وأعجب حين قال صلى الله عليه وسلم عن حلف الفضول الجاهلي: (لَوْ دُعيتُ به اليومَ لَأَجَبْتُ)؛ لأن هذا الحلف يؤكد على أصول الاتفاق والاجتماع وتكريس السلم والأمن، والبعد عن الحروب والدماء، وهذه المعاني الإنسانية المشتركة قواعد عامة يدعو لها الدين الإسلامي، ويحث عليها، فهذه إشارة مهمة من الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قيمة الاشتراك الإنساني نحو الخير والنماء والازدهار والتواصل، مما يفتح آفاقا رحبة لبث هذا الدين والدعوة إليه وعرضه دون مضايقات أو حواجز يصنعها التشويه أو العدو أو التطرف الداخلي.
عالم لا يعترف بالحدود!
إن هذه المفاهيم الإسلامية تؤصل لفكر التواصل، وتستبعد فكر القطيعة، ولكن ثمة قطاعا من العالم الإسلامي علميا وفكريا واجتماعيا يسعى إلى صناعة جزر مغلقة معزولة عن التأثر وعن التأثير أيضا، مصونة عن التغير ومحرومة من التغيير يدفعها التوجس والخوف، والحذر من الأشياء، ومن الآخرين، ومن المستقبل، ومن الجديد، نحو مزيد من التخندق والانعزال في عالم لا يعترف بالحدود، فبدأت هذه الجزر المغلقة -فكريا وعقليا ونفسيا واجتماعيا..إلخ- تضغط على محدداتها وتبالغ في ترسيم حدودها الفكرية والثقافية والاجتماعية العامة؛ لتشارك في حفظ هذه الحدود وتلك الحمى من الضياع والذوبان، ونسي أولئك أن الفكر القوي والحق الواضح يحتاج أن تخاف منه لا أن تخاف عليه.
والملاحظة العلمية تثبت أن كل مبالغة وتكلف في ترسيم الحدود الثقافية وصناعتها تقوم على تحضير لفتنة مستقبلية وانشقاق، وكلما ضاق الفكر عن أن يتحمل الخلافات تبعثر الناس من حوله، ولقد علمنا الدين الحنيف أن الناس لن يسعهم إلا الحنيفية السمحة، وحين أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذا وأبا موسى لما بعثهما لليمن قال: (يسرا ولا تعسرا، وتطاوعا ولا تختلفا)، وفي الحديث الآخر: (يسروا ولا تعسروا، بشروا ولا تنفروا).
إن بعض الناس يريدون أن يجعلوا من بعض قطاعات العالم الإسلامي الفكرية والتعاملية والاجتماعية جزرا مغلقة معزولة لا تعرف سوى أنها لا تعرف شيئا!.
قيم التواصل والحوار والانفتاح
والذي يبعث على الألم أنها قد تنسب كل ذلك للدين الإسلامي أو لإحدى قواعده، مع أنهم يقرون أن هذا الدين الخاتم لكل الناس، وللثقلين من الجن والإنس، وأن هذا النبي صلى الله عليه وسلم أرسل رحمة للعالمين، \"وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَة لِّلْعَالَمِينَ\"، وأن هذا الدين الإسلامي صالح لكل زمان ومكان، إذا كان ذلك كذلك فإن هذا الزمان مليء بالأمكنة التي لم تصلها قواعد هذا الدين الحنيف ودعوته، ومليء بالأحياء الذين لا يعرفون شيئا عن شرائع الإسلام وشعائره.
من واجبنا أن نوصل رسالة الحق والدين والإسلام إليهم عبر هذه القنوات الاتصالية الحديثة ووسائل الإعلام العصرية، وأن لا نهرب من رياح العصر، بل نغتنمها ونوظفها، ونستثمرها لصالح الدين الإسلامي ورسالته، فالدعوة الإسلامية يفهمها الناس كلهم لسهولتها وعمقها..
لا نحتاج معها سوى لسان يصل إلى الأسماع، ويدٍ تصل إلى القلوب، وصورة تصل إلى الأبصار، أما عدم الإيمان بقيم التواصل والحوار والانفتاح فهو حرمان من ذلك كله، وحرمان من العلم، يقول الله سبحانه وتعالى: \"وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولا\".
المشرف العام على مؤسسة الإسلام اليوم