م.نبيل صالح صابر
تحرص العوائل الجداوية ضمن جهود التربية وتعليم المهارات المختلفة،على صحبة الأبناء إلى الأسواق ، ليتعلموا البيع والشراء وما يصاحبه من مهارات تنقية (اختيار) الأفضل والأحسن (الأجود) وعشان لا يحطوا فلوسهم في غير مكانها… ولِيلتمسوا الكلمة الحلوة والابتسامة في جميع تعاملاتهم. وليتعلموا تثمين ما يشترون مقابل المبلغ المقترح من البائع…فيحسنون التقدير وكذلك تعلُم عملية المساومةُ( الأخذُ والعطاء…مناقشة الثمن ) بدون الجرأة على بَخسِه، حسب تعليمات الله سبحانه وتعالى ” وياقوم أَوْفُوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين” (الآية ٨٥ سورة الأعراف).
وضعنا الاجتماعي في مدينتنا الحبيبة جدة بسيط و متعاون… ويعرف الناس بعضهم بعضًا … ويقدم الكبار النصح للصغار… فهو مجتمع مترابط يحب الخير للجميع.. ونحن الصغار نحترم الكبار ونوقرهم… ونُؤثِر على عدم القيام بما يضايقهم.
رافقت الوالد (حفظه الله ورعاه) سنوات عديدة لشراء المقاضي اليومية من السوق، وكذلك لشراء الإحتياجات الأخرى من ملابس وألعاب في مناسبات الأعياد وخلافه، وتعلمت منه الكثير. وبدأ الوالد يعطيني مهام شراء المقاضي اليومية من عيش وجبن وزيتون وحلاوة طحينية….وكذلك اللحمة والخضار، وتضيف الوالدة (حفظها الله) احتياجاتها من البهارات وزيت السمسم و أشياء أخرى كثيرة، وكنا نشتري احتياجاتنا يوم بيومه لظروف مختلفة… منها الحالة الإقتصادية وعدم وجود ثلاجة … حيث كنا نخزن معظم الأكل في النملية (دولاب عليه سلك ناعم يمنع دخول الحشرات ) نضع به بعض المأكولات بعد تغطيتها.
ولنبدأ بذكريات التسوق والدروس المستخلصة منها وذلك لتقديمها لأبنائنا وبناتنا، عسى أن يُنفع بها.
-أرسلوني إلى دكان العم عِلْيَّان بباب مكة ، يبيع فيه الحليب البقري، والقشطة (القشدة)، والبيض البلدي وكمان الدجاج البري.
أشتريت دجاجتين بري وبعد ذبحها.. وهي بريشها وعراميشها(لم يتم نتف ريشها) شلتها في كيس ورق قبل أكياس النايلون، وفي طريقي للبيت قابلت أحد معارف الوالد… ووقفت أسلم عليه… ونتيجة لاستفساره قلت له أشتريت دجاجتين من عند عِلْيَّان…فقال مستغربًا ليش عندكم عزومة اليوم؟ .. وكان ردي سريعًا… إيوه !! ولم يكن عندنا عزومة ولايحزنون… أنظر الأحوال الإجتماعية في تلك الفترة…إِلِّي يشتري دجاجتين عنده عزومة!!! وطبعًا هذا كله قبل ماينزل للسوق دجاج فقيه!!.
– في باب مكة ، كنت عند بَيَّاع الشريك والجبنة والزيتون والحلاوة الطحينية البلدي (الشعر)… وصادف مرور عمي محمد(رحمه الله) وسأل إيش بتسوي؟؟ وتبرع صاحب المحل بالرد قائلًا : هذا عميلنا يشتري من عندنا كل يوم، وأخذني عمي على جنب ويده على إذني مارصًا (كي لا أنسى النصيحة) … “عميلك فلوسك” اليوم يتوصى بك وبكره في غفلة ما تعرف إيش يعطيك… خلي بالك … عميلك فلوسك!!
-تعلمت من عمي عبدالله (رحمه الله) أن لا أشتري الفاكِهة الموسمية في أول يوم من نزولها السوق… بل عليَّا الإنتظار حتى يكثر بائعوها وينزل السعر في السوق… وأوصاني بالتأكد من نضج المعروض ، حيث أول المعروض قد لايكون مستوي.
-كنت مرة في مكتبة القلم بعمارة باخشب ودخل شاب طلب دفترين أبو أربعين وقلم ناشف… وأعطى البائع عشرة ريالات … ورد له البائع الباقي مع المشتريات…فوضع الشاب باقي الفلوس في جيبه والتفت مغادرًا من دون أن يعد الفلوس !!
وشافت الموقف سيدة كبيرة في السن … فزهمت على الشاب وقالت له” ياولدي عُد الفلوس… حتى لو لقيتها في الشارع”.
– أُسْنِّد إِلَيَّ الذهاب إلى البنقلة لشراء الحوت الطازه… بعد أن كان العم عبدالله يوسف وخالي أحمد محمد عابد (رحمهما الله) يتكفلان بشراء احتياجاتنا من السمك يوم أكلة الحوت.
ومرة رحت البنقلة الواقعة خلف البنك العربي جنوب شركة الكهرباء في نهاية شارع الملك عبدالعزيز… وطبعًا بدأت أدور وأنقي لشراء السمك إلِّي موصياني الوالدة عليه…وقد زاغت عيني بكومة جمبري (نيء) وطازة وكنا في جدة ما نعرفه والموجود الجمبري الناشف يصلنا مع الحجاج…وكنا نروح خصيصًا لمدينه حجاج الميناء لشراء الجمبري الناشف في موسم الحج الذي يعمل منه أكلة لذيذة جدًا ، قلَّ من يعدها هذه الأيام و ذلك لتوفر الطازه من الجمبري. أشتريت كومة الجمبري بخمسة وعشرين ريال، وبعد العودة للبيت وتقشيره صار قليل جدًا ولا يكفي وجبة واحدة لعائلتنا الصغيرة ،ولمن سأل الوالد بكم أشتريته ، زغرني ( نظرة لوم وعتاب على إلِّي سويته) وكأنه يقول “أرسل مرسول ولا ترسل فلوس”. خمسة وعشرين ريال في تلك الفترة مبلغ كبير ممكن تشتري به قلم سيجان (القلم مكون من أربعة شكات والشكة فيها سبعة أوثمان حبات سمك سيجان) أي تكفي وجبة عائلة كبيرة!!.
وبعد زغرة اللوم والعتاب، تكرر على لساني (أبويا يخاصمني) عند المساومة على إلِّي أبغي أشتريه… وهذه الجملة تفتح مجال للنقاش مع البائع… وفي معظم الأحيان أتمكن من الحصول على ثمن أفضل!!…أما الآن فالنقاش لا يُثمر طبعًا في المحلات التجارية الكبيرة والحديثة أو السوبرماركت… ويعتذرون أن سعر محدد حسب الكمبيوتر… وكأن الكمبيوتر لم يخترع ليساعدنا … بل ليسلب قراراتنا في البيع والشراء ويوقف المساومة!!!
-رحت مرة أنا والوالد نصلي المغرب في المسجد إلِّي جنب بيتي، وبعد الصلاة وعند خروجنا من المسجد ،تقدم بيَّاع الخضار والفواكه نحوي وقال هذا الوالد؟ ؟ وقال له ياعم صالح صحيح إنك تخاصمه ، كل ما يشتري مني ولدك يقولي أبويا يخاصمني!! فقال الوالد:
أبدًا… وعلمني الوالد جزاه الله خيرًا أن لا أساوم وأنازع الباعة المتجولون على السعر… وقال إن لم تشتري منهم وهم يجتهدون بتنقلهم من مكان لآخر …. فسيستمر احتياجهم !!!! وذكرني بقول الرسول محمد صلى الله عليه وسلم “رَحِم الله رجلاً سمحًا إذا باع وإذا إشترى وإذا اقتضى”
وقبل الختام … أتمنى أن نُعلِّم أبناءنا وبناتنا التعامل الحسن السمح والكلمة الحلوة …وتقدير قيمة السلع والخدمات المشتراه والتأكد من الجودة وأن لا نعتمد على الماركة التي ندفع ثمن اسمها جزءًا من القيمة… وبالبحث والتقصي قد نجد ما نحتاجه وبما يماثلها من جودة (وبعد أن ننسى التفاخر) بثمن أقل!!
وعمومًا علينا الحرص على معرفة ما ندفع .. ومقابل ماذا؟ ونحرص على عد باقي الفلوس المعادة لنا قبل وضعها في الجيب.
والله ولي التوفيق.
[email protected]