المنبر

هناك تعلمت أن أعيش ببساطة

بعد إقامتي لنحو شهرين في ماليزيا، أذهلني العيش فيها ببساطة، فتساءلت بغصة لماذا نحن – الشعوب العربية- نحرم أنفسنا من لذة العيش ببساطة؟، هل هذا باختيارنا أم رغمًا عنّا؟ بمعنى آخر هل لأن الناس تراقبنا بحرص ؟ أم لأننا إن لم نتكلف فالنقد اللاذع بانتظارنا؟.

قد يكون ليس من السهل فهم ما أرمي إليه بدقة ما لم أعرض لمَ أعجبتني بساطة الماليزيين، لذلك أذكر صورًا من تلك الحياة البسيطة.. فعندما تذهب إلى ماليزيا سوف تنسى مصطلح الفخامة والترف،
سوف تجد مساجد أو بيوتاً جميلة بنيت بأقل التكاليف، غرفاً صغيرة، أثاثاَ بسيطاً..

لكن الأهم أنه يؤدي الغرض، سيارات صغيرة جداً صنعت بأيدي ماليزية بأقل التكاليف، لكنها أيضاً تؤدي الغرض..ملابس الناس تجدها بسيطة جداً ، لكن يكفي أنها مريحة وأيضًا تؤدي الغرض

النساء في ماليزيا يظهرن بدون زينة (مكياج) إطلاقا، ولا يلبسن الكعب العالي، ولا يكلفن أنفسهن تسريحات شعر تستغرق الكثير من الوقت..، لماذا؟ لأنه لا داعي لديهن لأن يجذبوا إعجاب الآخرين بالجمال أو الأناقة.. ولأنهم يحبون العيش ببساطة بعيداً عن التكلف والتعقيد.. لأنهم مشغولون بأهداف أخرى أهم من تلميع الظاهر،
لذلك نجد الماليزيين لا ينظرون ولا يلتفتون لمن يمر بجوارهم ، حتى في الأماكن العامة، يستحيل أن يراقبك أو يرمقك أحد بنظره، لأن الناس لا يعنيها البحث للنقد، ولا يجذبها بريق المظهر.
عندما تذهب إلى ماليزيا ستلاحظ قلة الأسواق بشكل كبير مقارنة مع ما نلاحظه من كثرة الأسواق وتكاثرها اللامتناهي في بلادنا، وهذه الكثرة من علامات الساعة، كما صح في الحديث النبوي،إذ إنها مؤشر على انشغال الناس بدنياهم عن آخرتهم، كما أن فيها دلالة على أننا شعوباً مستهلكة، تعيش لكي تأكل وتلبس، وتترفه وتتباهى! ثم تقر أعين العلامات التجارية العالمية بأعلى الأرباح!

عندما تشاهد التلفاز الماليزي تلاحظ الفرق الشاسع بين إنتاجنا الإعلامي الذي يهدر الملايين وبين إنتاجهم الإعلامي البسيط، الذي يؤدي الغرض ببساطة، وبدون بذخ، حتى المسلسلات نجدها تمثل في بيوت بسيطة، وليست في قصور، نجد الاستديوهات في البرامج الحوارية كأي غرفة جلوس في أي منزل عادي،حينها ستذهلك المبالغة في العناية بفخامة الاستديوهات في قنواتنا التلفزيونية
نتساءل ألن نستطيع أن نشد مشاهداً عربياً إلا بالإغراق في البذخ وهدر الأموال!؟وإذا كان واقعنا كذلك، فالتكلف أصبح جزءاً من ثقافة أمة!

في ماليزيا كنت أدعو صديقتي – الغزيرة في العلم والأخلاق، البسيطة في المعاملة- على الغداء بشكل شبه يومي، لأنني أعرف أنها ستسر بكل ما تراه وبما يقدم إليها، ولن تبحث عن النواقص،كنت أضيفها بمنزلي كما هو، دون مراسم إضافية أو أي تكلف!هنا أتذكر كيف انقطعنا اجتماعياً عن زيارة الأقرباء فضلاً عن الأصدقاء بسبب التكلف!الذي بطبيعته يناقض الفطرة، ولا يساير طبيعة الحياة، التي تطلب منا أدواراً متعددة.
الشعب الماليزي حصد ثمرة ترفعه عن التكلف هذا نهضة حضارية ؛ رفعت من قيمة العلم والعمل، و ما وما زال الكثير منا في مواقعهم بتقديم العناية بالعرَض عن العناية بالجوهر، والعناية بجمال المظهر على جمال السريرة بما فيها من إيمانيات وقيم، وفي مقدمتها قيمة العلم وقيمة العمل، والتفنن في إنتاج إصدارات متجددة دائماً من بروتوكولات اجتماعية غير متناهية تصب في إظهار الشخص بالمظهر الأنيق صاحب السيارة المميزة، والدار الفاخرة..

هذه الإصدارات ترفضها ثقافتنا الإسلامية التي هي براء من كل تكلف، وهي تشغلنا عن الوعي بمسؤوليتنا الحقيقية، وعن الهدف الحقيقي الذي خلقنا من أجله..

عندما قرأت في صلاتي قول الله تعالى” ألهاكم التكاثر” فهمتها كما لم أفهمها من قبل، نعم لقد عدنا بهذه المظاهر وبالمنافسة من أجلها إلى ثقافة الجاهلية الأولى.. حينها تذكرت هدفي الذي أتمنى تحقيقه منذ سنوات طويلة، وهو العمل على تقديم تظاهرة اجتماعية ذات فعاليات إعلامية عديدة؛ لمكافحة ظاهرة التكلف بكل مظاهره،أتطلع إلى عقول وأقلام وسواعد متعاونة لنشر ثقافة العيش ببساطة، وتقديم العناية بالسرائر على العناية بالمظاهر.. لكي نكون بحق خير أمة أخرجت للناس.
بقلم الدكتورة هداية الله أحمد الشاش

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *