يوسف عبد المنان
الإعلان الرسمي للرئيس “البشير” تمسك الحكومة بالحوار الوطني وعدم التفريط فيه، بعث برسالة جديدة لأطراف الأزمة السودانية في البلاد أن هناك بارقة أمل وضوء في آخر النفق يمكن أن يفضي في نهاية الأمر إلى توافق واتفاق سياسي ينهي حالة الأزمة المستفحلة التي تعيشها بلادنا منذ سنوات طويلة، بعد أن غرقت سفينة الحوار خلال الفترة الماضية في لجة مستنقعات جعلت بعض الأطراف الفاعلة فيه تعود إلى خيارات بائسة، ونعني حزب الأمة والإمام “الصادق المهدي” الذي عاد للتحالف مع الحركات المسلحة ورفع شعار إسقاط النظام بدلاً عن إصلاحه.. ولا زالت قوى اليسار الرافض للحوار ابتداءً بحاملي السلاح من أعداء الحكومة التي لم تتوان في الزج بهم في غياهب السجون والمعتقلات لتعود حالة الاحتقان الشديد في الساحة بعد انفراج مؤقت.. وفي ذات الوقت، فإن فشل التفاوض بين الحكومة ومتمردي قطاع الشمال ومتمردي دارفور وتصاعد العمليات العسكرية في مسرح الحرب، جعل الساحة السياسية تئن تحت وطأة الفشل، وينتاب قطاعات عريضة من أهل السودان إحساس بهول وفداحة ما ينتظرهم في وطنهم من ضيق وعنت ومشقة في كسب سبل العيش، رغم أن هذا العام شهد نجاحاً للموسم الزراعي وحصاد زرع لم تشهده البلاد منذ عشرين عاماً مضت، إلا أن طاحونة الحرب التي دارت رحالها ودخان المعارك المتصاعد في المنطقتين ودارفور سيقضي على حصاد الزرع ويجفف خزينة الدولة من الدولار والجنيه.
إن إعلان الرئيس التمسك بالحوار يمثل إشارة إيجابية جداً بأن مرحلة ما بعد الانتخابات قد تشهد توافقاً مع الآخرين.. وإن إجراء الانتخابات في موعدها لا يعني سد الأبواب واستئثار المؤتمر الوطني وحده بالسلطة لخمس سنوات قادمات.. وإن أبواب التوافق مفتوحة.. لكن بطبيعة الحال المشكلة في أن المعارضة إذا كانت تتخذ الحوار مطية ووسيلة لتصفية النظام والقضاء عليه بالتفكيك أو أن تجعله في وضعية ضعيفة لا تسمح له حتى بالحركة، فلن يقبل المؤتمر الوطني بطبيعة الحال بمفاوضات وتوافق يضع فيه عنقه على حد السيف والسكين.. ويصبح خياره في تلك الحالة التمسك بمواقفه والعض على حكومته بأسنانه حتى لو أدى ذلك لاحتراق الجميع.. والمعارضة التي رفضت الحوار بعضها لا يؤمن بالتعايش مع المؤتمر الوطني وتمني نفسها بالقضاء النهائي عليه، وتلك أمنية صعبة التحقق من واقع قدرة النظام على الدفاع عن نفسه وهو يمتلك ذخيرة ورصيداً من المقاتلين والمجاهدين داخل المؤسسات الرسمية وخارجها مستعداً للتضحية بأغلى ثمن من أجل مشروعه السياسي والفكري وحكومته. وقد كان حزب الأمة واقعياً في أطروحته بأن تطرف وغلو المعارضة وتطرف النظام وبعض جيوبه لن يفضي إلى حلول إلا من خلال أطروحة وسطية تحافظ على مكاسب المؤتمر الوطني وتمنح المعارضة وجوداً في الحكم يصل إلى (50%).. لكن التيار اليساري رفض ذلك.. وحاملو السلاح تحدثهم أنفسهم بوهم إسقاط النظام عسكرياً، وأحياناً انتظار المجتمع الدولي لينوب عنهم في إسقاط النظام من خلال القرارات العقابية أو المحكمة الجنائية.
وفي المعسكر الآخر، فإن المؤتمر الوطني يبدو في كثير من الأحيان وخاصة الخطابات غير الرسمية لا يأبه كثيراً للآخرين ويتحدث عن تسوية سياسية واتفاق مع الآخر دون أدنى استعداد لدفع ثمن ما يدعو إليه.. لذلك انصرم عام 2014م بخيبات أمل كبيرة وفشل في وحدة السودانيين على الحد الأدنى.. ومع بزوغ شمس العام الجديد يبعث الرئيس “البشير” برسالة جديدة لإحياء عملية التفاوض المتعثرة.
لقد أصبحت الانتخابات واقعاً ولا مجال لتأجيلها، لا اعتبارات عملية ولا سياسية، فالمعارضة تريد (جر) الحكومة في مماحكات كلامية وإغراءها بالحديث عن السلام وتطاول جلسات العلاقات العامة حتى حلول (أبريل) لتجد الحكومة نفسها أمام خيارات صعبة جداً، إما تفقد شرعيتها بانتهاء أجلها وتصبح البلاد في فراغ دستوري وقانوني وتضطرب الساحة الداخلية لتهيئة المناخ لانقلاب عسكري أو مغامرة من جهة الحركات المسلحة لفرض واقع جديد، وإما أن يجد “البشير” نفسه أمام خيار (عسكرة) السلطة بمشروعية القوة العسكرية، وبذلك (يخنق) النظام نفسه بعمامته ويقضي على نفسه.. لذلك تمسك المؤتمر الوطني بإجراء الانتخابات في موعدها.. والآن بات الرئيس “البشير” على أعتاب حقبة رئاسية جديدة تمتد حتى 2020م.. لكن إلغاء انتخابات الولاة وجعل أمرهم تعييناً من المركز خطوة في صالح التوافق السياسي مستقبلاً، لأن إجراء انتخابات للولاة كان سيضفي مزيداً من التعقيدات على الواقع ويغلق أبواباً يمكن للمعارضة المشاركة فيها.. وبالتعيين الآن قد يصبح لشركاء المؤتمر الوطني مثل الحزب الاتحادي الديمقراطي نصيب في الولاة، وكذلك الشركاء القادمين من الحركات المسلحة كالتحرير والعدالة وحركة العدل والمساواة.. وانتخاب “البشير” رئيساً هو مسألة حسمت ولا يمكن أن يشكل “كندة غبوش الإمام” و”محمود عبد الجبار” منافسة حقيقية لـ”البشير” في انتخابات (أبريل) القادم.