أوراق .. وذاكرة الأرشيف

فقيه يواصل النبش في ذاكرته.. عندما تخــــوفت من تخلف الصناعة وسطوة السياسة (الحلقة الرابعة)

يواصل اليوم الشيخ عبدالرحمن فقيه في قص حكاية مشواره العملي منذ أكثر من سبعين عاماً.. ليقص على متابعيه كثيراً من المواقف التي مر بها أو التي مرت به.. وهي مواقف تعطي انطباعاً على مدى الاصرار الذي غلف حياته في الوصول الى نجاحات كان البعض يعتقد انها من المستحيلات.. لكن الاصرار والمثابرة على تحقيق النجاحات التي كانت ديدنة الذي لا يلين أو يتوقف.
لنمضي معه ليقص علينا بقية ما توقف عنده الأسبوع الماضي عندما قال:
إغلاق قناة السويس
كنا في بداية الخميسنات الميلادية عندما عصفت بالمنطقة احداث جسام، اهمها أزمة قناة السويس، والتي نتجت عن تأميم الرئيس المصري جمال عبدالناصر للقناة التي كانت تديرها شركات فرنسية وبريطانية حسب عقد وقع مع مصر في العهد الملكي السابق للثورة. وبلغت الأزمة ذروتها بالعدوان الثلاثي على مصر في عام 1956 م، حيث هاجمت إسرائيل وبريطانيا وفرنسا ميناء بور سعيد فأقفلت القناة.
أنتهت الأزمة بإنسحاب القوات الغازية، وإستعادة مصر لإدارة القناة، ولكنها بقيت مغلقة لسنوات بعدها، فعطلت التجارة مع أمريكا وأوروبا وبقية دول حوض البحر الأبيض المتوسط والتي كانت تمر سفنها بالقناة في طريقها لموانئ البحر الأحمر، وإلى آسيا عبر مضيق باب المندب. وهكذا أصبح على كل هذه السفن أن تدور حول القارة الأفريقية لتصل الينا وإلى المحيط الهندي، بما يعنيه ذلك من زيادة الكلفة المادية وتضاعف مدة الشحن.
الأزمة الكوبية
جاءت أزمة كوبا والتي كادت أن تتحول إلى حرب عالمية بين المعسكرين الشرقي والغربي.
وقد أثرت تلك الأحداث على الأسعار التموينية حيث هرع الناس إلى المخازن التجارية للاحتفاظ بكميات احتياطية من تلك البضائع في منازلهم خشية توقف عمليات استيرادها .
وبذلك ارتفعت الأسعار وبشكل خيالي وبالرغم من ذلك فقد كنا نحافظ على نفس السعر بدون أدنى زيادة مما أدى إلى تكدس الطوابير على منافذ البيع.
ولم نكن انتهازيين ونرفع الأسعار وكل ما كنا نعمله هو ترشيد طلبات المشترين حتى نمكن أكبر عدد من الناس من الحصول على المنتج.
التقليد آفة التجارة
لقد سارت تجارتنا في السمن بشكل جيد، وزاد استيرادنا بكميات كبيرة ، وفتحنا فروعا لنا في المدن الرئيسية في المملكة .
لكننا وجهنا مشكلة تسابق بعض التجار إلى تقليد الماركة التي نستوردها والتي تحمل اسم (سمن فقيه). وعندها تذكرت موقف صانع الأختام التركي الذي رفض أن يصنع ختماً للصابون يحمل اسم ماركة (أبو عجلة)، وتأكد لي كم كان محقاً في نصيحته ومبدئه الذي رفض من اجله الغش التجاري.
غياب انظمة الحماية
كما واجهنا صعوبة من هؤلاء الذين يستوردون بضاعة أرخص أسعاراً وأقل مستوى، حيث تختلف طرق نوعية الزيوت وطريقة معالجتها(هدرجتها) أي إضافة مادة عنصر الهيدروجين لإكسابها السمن قواما شبيها بقوام السمن الحيواني. ولم يكن في مقدور كل المصدرين المنافسين لنا إتقان هذه التقنية وكان ذلك التنافس غير الشريف يؤثر بشكل سلبي علينا، لأنه يضع أسمنا على بضاعة سيئة، فنحمل وزرها وتؤثر على سمعتنا.
استعنا بالجهات الحكومية وبالغرفة التجارية لوضع حد لتلك التجاوزات ولكن للأسف الشديد لم تكن هناك أنظمة تحمي بضاعتنا من ذلك الاعتداء على حقوقنا، فلجأنا إلى الجهة المصدرة وهي الشركة التي نستورد منها فقاموا بدور فعال في منع تصدير أي بضاعة تحمل تقليداً للماركة التي نستورد بضاعتنا تحت شعارها .
عرض التعاون مع الباكستان
وعلى ذكر استيراد السمن فقد طلب مني أحد الوزراء وقتها بواسطة شقيقي عمر فقيه، الذي كان يشغل منصب وكيل وزارة التجارة آنذاك، الاجتماع به لأمر هام .. وتم الاجتماع بحضور أخي.
وكان الهدف من الاجتماع إخباري بأن هناك رغبة بأن نتعاون مع الشركات الباكستانية لإنتاج السمن النباتي تقوية للعلاقات الاقتصادية مع الأخوة في الباكستان .
وقد فوجئت بذلك وطلبت فرصة للتفكير وعمل هيكلة لهذه الشركة وتقديم متطلباتنا ودراسة متطلباتهم وشروطهم .
فمن حيث المبدأ لم تكن لدي ممانعة لاسيما إذا كان ذلك يخدم الطرفين، لكن المشكلة هي مستوى وجودة السمن الباكستاني قياسا الى السمن الذي نستورده من هولندا. لأن مايهمنا في المقام الأول هو جودة المنتج الذي تعود المستهلكين عليه لسنوات طويلة، إضافة إلى عقبة ارتباطنا بعقود طويلة المدى مع الشركة الهولندية .
تخوفت من تخلف الصناعة وسطوة السياسة
ومع ذلك فكرت في كيفية الارتباط بشركة “باكستانية” لعمل صناعة متطورة في هذا المجال لأن باكستان في ذلك الوقت لم تكن على مستوى متقدم من العلم والتقنية .
وأن هناك دولاً متخصصة في هذه الصناعة وهي أعلى مستوىً وتطوراً علمياً وتقنياً في هذه الصناعة وغيرها من الصناعات الأخرى مثل هولندا على سبيل المثال التي كان التعاون والتعامل التجاري بيننا وبينهم مستمراً وقائماً .
لكنني تذكرت أن أكثر الدول النامية تجعل الاقتصاد في خدمة السياسة وليس العكس حيث تخدم السياسة الاقتصاد … فلم أتحمس لتلك الفكرة ومرت الأيام .
ولم يتم التعاون مع الشركات الباكستانية في هذا المجال على وجه التحديد، وربما تم التعاون في مجالات أخرى .
استمرت تجارتنا في السمن النباتي ما يقارب عشرين عاماً، واستطيع أن أقول بأنه، ولله الحمد والمنة، تحقق لنا بفضل الكريم وتوفيقه، الربح والأهداف التي وضعناها، وكان عملا ناجحا بكل المقاييس.
زيارتنا لهولندا
في صيف عام 1370هـ الموافق 1951م قمت برحلة بصحبة الوالد رحمه الله إلى هولندا ودول أوروبية أخرى بهدف علاج الوالد، وكذلك لزيارة الشركة الموردة. استغرقت رحلة الطيران وقتا طويلا وشاقا، دام قرابة 18 ثمانية عشرة ساعة طيران، حيث غادرنا مكة أولاً إلى جده ومنها جواً إلى القاهرة ومن ثم إلى اليونان. ومن هناك طرنا إلى ايطاليا ثم وضعتنا آخر رحلة في هولندا بعد أن أخذ منا التعب مأخذه من إرهاق رحلات متتابعة ومطارات عديدة.
فالطائرات ووسائل النقل الجوي عموما لم تكن كما هي عليه الآن، ولذلك أخذنا نتنقل بين المطارات والدول حتى وصلنا أخيرا أمستردام وكان مندوب الشركة في انتظارنا حيث أكمل لنا إجراءات الدخول بكل يسر وسهولة.
وفي المقابل، لم تكن الإجراءات معقدة كماهي الآن، فلم يكن خطر الإرهاب قد وتًر علاقات الشعوب والدول وقتها، فكان التنقل والتعامل يمضي بسلاسة وسلام.
المدنية والطبيعة الخلابة
كان أول ماشدني ونحن نخرج من المطار وأشاهد أول بلد أوربي أزوره في حياتي هو الطبيعة الخلابة، والطرق المعبدة وسلاسة حركة والمراكب البحرية والقطارات والسيارات والدراجات النارية والهوائية. وهولندا بالمناسبة كانت ولا تزال أكثر بلدان اوروبا أستخداما للدراجات الهوائية.
وبعد أن حطينا الرحال في الفندق المعد لإقامتنا بدأ برنامج زيارتنا التي قضيناها في مراجعات وفحوصات طبية للوالد، وفي زيارات سياحية، وجولات في المزارع ومراعي الأبقار الهولندية الشهيرة، ومصانع السمن والصناعات المساندة.
ومع انقضاء كل يوم تزداد مساحة إعجابي بما أشاهده من رقي ونعم ورفاهية في هولندا وفي بقية الدول الأوربية التي زرناها في تلك الرحلة. فالتطور الصناعي والعمراني والحضاري بعد عودة الحياة الى أوروبا بنهاية الحرب العالمية الثانية كان ملفتا ومبهرا، وجمال الطبيعة كان ساحرا، والأمطار التي تزورنا من العام للعام، لا تكاد تتوقف عندهم لتروي أرضا خضراء لا تعرف الضمور ولا التصحر ولا الجفاف.
عقدة البقرة
استرعى انتباهي عندما كنا في هولندا آلاف الأبقار التي ترعى في تلك السهول ، رغم أن لدي عقدة شخصية من ألأبقار ، فقد كنت أخشى الاقتراب منها بعد حادثة تعرضت لها في صغري من بقرة كان الوالد رحمه الله قد اشتراها ووضعها في حوش بيتنا في السليمانية .
ففي أحد الأيام كنت أضع يدي على رأس تلك البقرة ولم أنتبه إلا وقد نطحتني، وألقت بي على الأرض، ومن ذلك اليوم وأنا أخشى البقر .
وانتقلت تلك العقدة معي الى هولندا فعندما قمت بزيارة إحدى مزارع الأبقار بصحبة رئيس المزرعة والذي أخذ يشرح لي كيف أن البقر يأتمر بأمره، وكدليل على ذلك، أخذ يصفر بصوته فاجتمعت مئات الأبقار التي في المزرعة حولنا، وساعتها كدت أنهار من الخوف .
ولم أملك وأنا على تلك الحالة إلا أن أسأله عن الطريقة التي يصرف بها تلك الأبقار، فأحدث نفس الصفير من صوته، فانصرفت الأبقار، وعندها تنفست الصعداء .
أستيراد البقرة
سألت عن إنتاج هذه الأبقار من الألبان فأخبرني ممثل الشركة بأنه لا يقل إنتاج كل بقرة عن تسعة جوالين من الحليب يوميا. وعجبت لهذا العطاء السخي وتمنيت أن يكون لدينا بقرة من هذا النوع، واستجاب الرجل لهذه الرغبة ووعد أن يكتب لي في أقرب فرصة.
وعندما عدت إلى مكة المكرمة وجدت العرض جاهزاً بأنتظاري، واستعجلت النظر الى سعر البقرة حيث قرأت الرقم الذي وضع على العرض 160، ظننتها بالشلن، وهي العملة التي كنا نتعامل بها في استيراد السمن. وفي نفس اللحظة قمت بتحويل السعر الى الجنيه الأسترليني والذي كان وقتها هو عملة الإستيراد والتصدير فوجدته يعادل 8 جنيهات إسترليني .
وكان السعر مغرٍ جداً وكدت أطلب عشر بقرات ولكن المشكلة هي عدم وجود المكان الذي أضعها فيه لأنني لست من تجار الأبقار والأغنام وإنما أردت استيراد البقرة لأسرتي، فاكتفيت بطلب واحدة. وكانت المشكلة في استقبال البقرة وطريقة نقلها من ميناء جدة إلى مكة المكرمة وفي تأمين المكان لها .
البقرة المدللة
أرسلت الشركة كتيباً عن أصل البقرة وكمية الحليب الذي تنتجه، كما أرسلت معلومات عن نسب هذه البقرة وكم كانت تنتج أمها وجدتها من الحليب.
وكانت الشركة تلاحقنا بين الفينة والأخرى لتسأل عن صحة البقرة وعن أحوالها، وكمية إنتاجها من الحليب ونوعية الغذاء الذي يقدم لها. كما طلبت صورا لها وللمسكن الذي تعيش فيه، ودرجة الحرارة والرطوبة في المكان.
زودناهم بالمعلومات المطلوبة، ولكننا لم نجرؤ على تصوير المكان لضيقه وعدم مطابقته للظروف الصحية والنفسية التي ينبغي أن تتوفر لبنت الأصول!
10 جوالين يوميا
بدأت البقرة تعطي حليبها المتدفق الذي يزيد عن خمسة جوالين في كل وجبة وكانت تدر وجبتين خلال كل أربعة وعشرين ساعة. واحترنا في كيفية استثمار ذلك الحليب فقمنا بتوزيعه على الجيران والمعارف .
وبدأت قصة البقرة تعم الحارة (محلة السليمانية)، وكان مصدر ذهول الناس حجمها الكبير وكمية الحليب الذي تنتجه.
وكانت المفاجأة الأخيرة أن السعر الذي قدمته الشركة (160 جنيهاً إسترلينياً) وليس مائة وستين شلناً كما فهمنا خطأ، كما فهمنا ، وهو ما يعادل 5% من قيمة البقرة الحقيقية.
ماتت البقرة بعد فترة، ربما لأختلاف الجو أو الطعام عليها، وربما لعدم ارتياحها للبيئة التي وجدت نفسها فيها، بعد العز والهناء الذي عاشته في بلادها، عند الماء والخضرة والوجه الحسن! وقد وجدنا أنفسنا في حرج شديد من الشركة، فكيف نبلغها بالوفاة وكيف نشرح أسبابها؟ كان ذلك موقفا صعبا جعلنا لا نكرر التجربة مرة أخرى.
لما لم أدخل عالم الألبان؟
قد تسأل وأنت تقرأ هذه السيرة وتستنتج منها أن صاحبها دائما ماكان يطرق أبوابا جديدة وغير تنافسية مع الآخرين في المجال التجاري.
وقد تسأل لماذا لم تستهويني تجارة الألبان ولها نفس ما للسمن بل ربما ينتج عنها صناعات أخرى يطلبها الناس كالأجبان، وبقية منتجات الألبان الأخرى طالما أنا أبحث عن الجديد .
حقيقة لم تستهوني هذه الصناعة لعدة أسباب أهمها أن الألبان كمنتجات موجودة وليست جديدة فاللبان موجود في مجتمعنا بل أن هناك أسرة كاملة امتهنت هذه المهنة قديما وهي أسرة ” اللبّان” .
طبعا لم تعد صناعة الألبان هي مهنة هذه الأسرة التي كبرت ونمت وأصبح فيها الآن الطبيب والمهندس والعسكري والمعلم والأستاذ الجامعي، أما بالنسبة للألبان فهي موجودة بأشكال مختلفة، وفي قناعتي الخاصة جدا أن دخول مجال صناعة الألبان ومنتجاتها لم تكن ضرورة قصوى لمجتمعنا في ذلك الوقت لتوفرها في الأسواق كحليب سائل وبودرة واجبان وبقية مشتقاته، لذلك لم أطرق هذا المجال رغم إغراء البقرة الهولندية التي كانت قصة على كل لسان في حي السليمانية .
وداعا للسمن النباتي
اشتدت المنافسة وكثر المقلدون والمستوردون على حد سواء في السنوات الخمس التي اعقبت حلول عام 1980م، ودخلت الأسواق الزيوت النباتية الغير مهدرجة كزيت الذرة وزيت بذرة عباد الشمس التي اتجه اليها كثيرون، كبديل للسمن .
وبدأ التراجع في استخدام السمن النباتي، وغصت الأسواق بصنوف شتى من الزيوت التي صاحبتها حملات إعلانية كبيرة وبناء على ذلك لم يعد هامش الربح في السمن مجديا بالنسبة لنا .
أصبحت صناعة الزيوت النباتية ذات مردود مربح، وتبلورت لدى عدد من رجال الأعمال فكرة إنشاء مصنع لها، وقد دعمت تلك الفكرة في ذلك الوقت فكانت نقطة تحول ومنعطف جديد في تحول نشاطنا من السمن النباتي (المهدرج) إلى الزيوت النباتية (غير المهدرجة)، حيث ساهمنا بنصيب وافر في تأسيس شركة “صافولا”، وأول رئيس مجلس إدارة لها المرحوم الأستاذ حمزة بوقري. لكن هذا التحول في نشاطنا لايعني أننا اتجهنا الى تجارة الزيوت النباتية، وإنما دعمنا فكرة انتاجها وتركنا مهمة تسويقها الى الشركة الوليدة واتجهنا الى نشاط آخر، بعد أن وجدنا أن هناك منافسة شديدة في السوق ..
البحث عن مجال جديد
إن الطموح المقترن بالإبداع يجب أن لا يتوقف في ظل أغلى ما يملكه الإنسان وهو الفكر الذي يحول الفشل إلى نجاح بعون ومشيئة الله سبحانه وتعالى .
وكان لابد لي في ظل هذه القناعة التي أسير عليها بتوفيق الله منذ أن وضعت قدماي في دكان الوالد رحمه الله لأساعده في بيع “الأصبغة” والعقل وخيوط القصب وحتى انتهاء عملنا في مجال السمن النباتي. كان لابد من التفكير في نشاط آخر غائب عن تصور الناس، وغريب على استعمالاتهم و يحقق في نفس الوقت تلبية احتياجاتهم ، كل هذه العوامل مجتمعة دفعتني إلى صناعة أخرى تحقق الغرض المطلوب للمنتج والمستهلك.
إلى اللقاء الأربعاء القادم ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *