جدة ــ البلاد
طهران التي تعيش في شبه عزلة دولية بدأت نتائجها تظهر شيئاً فشيئاً، فمن مظاهرات داخلية تمتد شرارتها يوماً بعد يوم وتتسع رقعتها الجغرافية في الداخل الإيراني، إلى جملة عقوبات طالت شركات ورجال أعمال بل وحتى دول لها علاقات تجارية مع إيران، ومع ازدياد الضغط الدولي على هذه الدولة المارقة التي تصدر إرهابها إلى دول العالم وتمنع استقرار دول المنطقة “بشكل خاص” بغية الوصول لأهدافها التوسعية من خلال تصدير ثورتها التي لم تجلب للشعب الإيراني سوى العزلة والتردي الاقتصادي، لم تجد إيران وسيلة للنجاة “ولو بظرفية زمانية محدودة” لم تجد إلا إشعال المنطقة مستخدمة أذنابها بتأجيج الوضع، فهاهو الشعب العراقي يخرج بالملاين رفضاً لهذه الهيمنة الإيرانية على بلاده الرافدين.
ومنذ الإطاحة بنظام صدام حسين في العام 2003م قدمت إيران نفسها كطرف حليف للمجتمع الدولي عارضة خدماتها مستعينة على ذلك بمليشيات طائفية تشاطرها نفس العقيدة والمذهب وكان لها ما أرادت، فاستغلت إيران هذا التكليف وعملت على شحذ الأنفس بنفس طائفي مقيت وعملت على إفراغ الدولة من مضمونها وتفكيك المجتمع العراقي وتجريده من الرؤية الوطنية المتحدة والنهج السياسي البناء مع غياب تام لصفة المواطن العراقي واحتكار إيران لمهنة توزيع المصداقية والشهادات الوطنية وإبعاد رموز ورجالات الدولة واستبدالهم بشخوص يدينون بالولاء المطلق لولاية الفقيه.
ورفضاَ لهذه الهيمنة وجهت الانتفاضة الشعبية المستمرة منذ أكثر من أسبوعين في معظم المحافظات الجنوبية في العراق “صفعة جديدة” للنظام الإيراني، الذي بات يتجرع سما حاول دسه للحكومة العراقية.
ومسار الاحتجاجات أكد انقلاب “السحر الإيراني” على نفسه، وهو الذي عمد إلى قطع خطوط الكهرباء عن المحافظات الجنوبية، وزيادة “المد الملحي” القادم من أراضيه في مياه شط العرب.
وسعى النظام الإيراني من وراء ذلك إلى دفع سكان الجنوب العراقي إلى الاحتجاج على حكومة العبادي، للضغط باتجاه تشكيل تحالف حكومي طائفي يصب لصالحها، بعد النتائج المخيبة لحلفائها بالانتخابات.
ولم تعلم إيران أنها أججت، عوضا عن ذلك، الوعي الوطني لدى متظاهري جنوب العراق، الذين تيقنوا أن النظام في طهران لا ينظر إليهم على أنهم حلفاء أو مقربون تحت يافطة الانتماء المذهبي.
وإنما يعتبر أرواحهم ومعاناتهم مجرد ورقة ضغط تستخدمها أو تحركها خدمة فقط لمصالحها، وإبقاء نفوذها في العراق عن طريق شخصيات وأحزاب فاسدة موالية للنظام الإيراني.
وهذه الحقيقة أدركها البصريون بشكل خاص والعراقيون بشكل عام منذ زمن، لكنهم كانوا بانتظار الدليل القاطع، والذي تمثل بإبلاغ طهران، في أوج أزمة معاناة سكان الجنوب العراقي، وفد الحكومة العراقية رفض إعادة تشغيل خطوط الطاقة المستوردة ولو بشكل مؤقت.
ليترجم سكان الوسط والجنوب دليل معرفتهم بنوايا طهران الخبيثة تجاههم إلى مهاجمة مصالح طهران في مختلف المحافظات، عن طريق حرق وضرب مقرات الأحزاب الموالية لها، لا سيما ميليشيات حزب الله وما يسمىعصائب أهل الحق في النجف ومليشيات بدر والفضيلة في البصرة وميسان وذي قار والمثنى والديوانية.
بل أن الفعلة الإيرانية جاءت لتقوي حكومة العبادي، ودفعتها للبحث عن بدائل لإنتاج الكهرباء وإقامة مشاريع تنموية عبر إطلاق التخصيصات المالية المطلوبة لذلك.
وأسقطت تظاهرات الجنوب أيضا حاجز الخوف لدى المواطن البسيط من التعرض لميليشيات طهران في العراق، فبعد أن كان المواطن الجنوبي أسير أفعال هذه الجماعات بات هو من يبحث عنها ليقتص منها.
وباتت مقار وحمايات هذه الأحزاب تبحث عن ملاذ آمن، وتستنجد بالقوات الحكومية لحمايتها وحماية مقارها، بعد أن أصبحت المتهم الأول في جريمة قتل المتظاهرين، الذين كتبوا فصلا جديدا من الانتفاضة العراقية على إيران.
وفى سياق الاجماع الدولي الرفض للممارسات الإيرانية، وبين فصول هذا الرفض تمضي واشنطن في تحركاتها الفعلية لخنق النظام الإيراني وكسر شوكته، بينما تشير طهران إلى أوراق ضغط لا تملكها.
ويأتي التصاعد الكلامي بين البلدين، في الوقت الذي تتواصل فيه التحركات الأميركية بين عواصم العالم من أجل فرض عقوبات جديدة على طهران، تعد حتى الآن الخيار الأبرز بالنسبة للأميركيين، لبلوغ هدفهم.
بدوره اتهم وزير الخارجية الأمريكي، مايك بومبيو، النظام الإيراني، بالتسبب في المعاناة والموت والإرهاب للإيرانيين والعالم بأسره وخاصة أوروبا.
وقال بومبيو في تغريدة على “تويتر”، “النظام الإيراني تسبب بالمعاناة والموت لشعبه والعالم. وفي أوروبا وحدها، أثارت الاغتيالات والتفجيرات التي دبرتها إيران، فضلا عن الهجمات الإرهابية الأخرى، رعب عدد لا يحصى من البشر”.
وأضاف وزير الخارجية الأميركي في تغريدة ثانية: “أوروبا ليست محصنة من الإرهاب الذي تدعمه إيران. وهذا الشهر، أدين “دبلوماسي” إيراني في فيينا بمؤامرة لتفجير تجمع انتخابي في فرنسا. وفي الوقت نفسه، الذي يحاول النظام إقناع أوروبا بالبقاء في الاتفاق الإيراني، يخطط لهجمات إرهابية في أوروبا”.
وعلى صعيد الداخل الإيراني ومع الاستياء الشعبي بسبب التردي الاقتصادي وتراجع العملة واحتمال فرض عقوبات أميركية جديدة صارمة، يأمل كثير من الإيرانيين أن تساهم الخطوات الأميركية في تسريع سقوط النظام الإيراني.
واصل الريال الإيراني هبوطه لمستويات جديدة على وقع تصديق مجلس الوزراء الإيراني، في اجتماع له على إقالة محافظ البنك المركزي الإيراني وتعيين عبدالناصر همتي خلفا له، في محاولة من طهران لاحتواء أزمتها المصرفية المتفاقمة.
ويأتي ذلك، بالتزامن مع مظاهرات واحتجاجات شهدتها مدن إيرانية، رفضا لشح النقد الأجنبي، واتساع نشاط سوق الصرف الموازية (السوداء). وتسبب هبوط الريال الإيراني لمستويات تاريخية عند أكثر من 92 ألف تومان أو ريال مقابل الدولار الواحد، في تآكل ودائع المواطنين في البلاد، وصعود لافت في أسعار المستهلك. ويتوقع أن يصل سعر صرف العملة المحلية في السوق إلى 100 ألف ريال لكل دولار واحد بحلول أغسطس المقبل، مع ظهور بيانات تراجع صادرات النفط الإيراني، بسبب عزوف المستوردين من الهند وأوروبا.
فيما تتواصل عملية فرار الشركات الفرنسية من إيران بعد قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي، وإعادة فرض عقوبات على طهران.
وانضمت مجموعة “دانون” الفرنسية للألبان، وألستوم للمقاولات والمواصلات، التي كانت تشرع لمد خطوط مترو الأنفاق في طهران، ومجموعات (سي إم اي- سي جي) إم للنقل البحري، و(بي إس ايه) للسيارات، بجانب شركة (إنجي) للطاقة، و”توتال” للبترول، و”رينو” للسيارات تلك المجموعات التي أعلنت انسحابها من إيران.
ورصدت صحيفة “لوفيجارو” الشركات الفرنسية التي هربت من الاستثمار في طهران، معلنة عدم قدرتها البقاء في إيران، بعد إعادة فرض الولايات المتحدة لعقوبات على طهران في مطلع مايو الماضي.
وتحت عنوان “الكيانات الثقيلة الفرنسية التي ابتعدت عن إيران” أشارت الصحيفة إلى أنه فور إعلان الرئيس الأمريكي الانسحاب من الاتفاق سارعت الشركات في تعليق أعمالها في إيران، خشية من الغضب الأمريكي الذي سيحل على استثماراتهم حول العالم بغض النظر عن جنسيتهم بتجميد أصولهم، وإدراجهم على القائمة السوداء وحظر وصولهم إلى السوق الأمريكية والغرامات الباهظة، كل هذه الإجراءات أدت إلى فرار حتمي لتلك المجموعات من السوق الإيرانية.