– كنت أتنقل ما بين النصوص، وأصارع كي أبقى ممسكاً بأطراف الرؤية التي بدأت تثقل علي أكثر وأكثر بفعل الشهد الذي أخذ يتقاطر، كلما أمعنت في القراءة . أعترف مسبقاً بعشق كبير يسكنني تجاه عذوبة سالم عقاب، وأناقته التي تطفح بها نصوصه. بدأت عيوني تؤلمني من القراءة وإعادة القراءة لكنني لم أتوقف، ليلة كاملة قضيتها بصحبة سالم لا يعدلها ليلة، وستظل تطاردني حتى أعيدها مرة ومرات. سالم عقاب حالة فريدة تكسر كل قالب من داخله وتفجربنا الكامنة، فتحيله لعالم من الرومانسيات التي تظل تتناسل بكل ثراء وجرأة ..وبكل احتشام أيضاً .
تقرؤه مثلي فتجد بأن (إيقاع الفرح) متجسد في كل تلك النصوص وبكل تأويلاتها، السمة الأبرز والبصمة المميزة لسالم، وما إن تتذكره إلآ وتبرز تلك الصفة بجلاء ووضوح والعكس . تلك سمة مهيمنة لاتسمح للضوء بالتسرب من بين ثقوب الذاكرة، فأنت مشدود إليه بخيط لايمسك به معه إلا قلة قليلة , وربما أتى في طليعتهم، ومنذ الوهلة الأولى تدرك بأن الشاعر اتخذ لنفسه طريقة معينة في الكتابة هي حصيلة تناص أو امتصاص لرحيق كثير من نصوص أخرى – كما في تعريف جوليا كرستيفا للتناص. كذلك هو امتصاص ناعم وجريء لما تعجز البيئة عن البوح به من مشاهد وروائح وطعوم وحالات، غير أنه يستند لذائقة جمالية سليمة ودقيقة أيضاً تمج كل ما لا يتفق مع توليفة سالم عقاب وتبقي فقط على ما ينسجم انسجاماً كاملاً مع ما يعده له. فالمطلوب هو الذوبان والامتزاج كلية مع القابلية التامة للتشكل من جديد، وبواقعية سحرية تلتقط تفاصيل دقيقة تبدو في المقام الأول ليست ذات بال وفي إطار صياغة وعرض وتوظيف ممنهج خاص تكتسب قيماً شعرية عالية ومختلفة، بحيث نجد أنفسنا أمام مولود آخر يحمل كل صفات المحالات السابقة فيما لا ينتمي لأيِ منها , وكأي شاعر مرهف يصور بدقة متناهية أزمة الإنسان المعاصر في بحثه الدائم عن الذات وارتحالاتها التي لا تحد، دون أن يسقطه ذلك في أتون الإحساس بالغربة والعزلة الروحية، ما سمح له بإسقاط كل ما يريد بسلاسة متناهية ودونما أنين يذكر،
فهو يبكي ويتوجع وإنما من الداخل؛ بحيث تبدو النصوص هنا مرتدية أثواب البهجة وفقاً لشروط خاصة تجعل من النص صورة ذات وجوه متعددة قادرة على خلق الاستجابة في المتلقي من خلال دوران تلك الوجوه وثباتها في الوقت نفسه عند شكل معين هو الفرح، وبلغة تتسم عنده بالوضوح والبساطة مع قوة الإيحاء وسهولة المأخذ، ما يمكن من نقل القاريء للنص بسهولة وإشعاره بأنه يتعامل مع لغة ذات مستويات تعبير مختلفة تناسب كل الأذواق وتتسع لكل قيم التعبير، فيما تنزع دوما لما يشيع في الوجود الفرح وفي النفس السرور، وما عليك كقاريء سوى البدء وسيتولى النص إيصالك إلى الوجهة التي تريد؛ إذ يحمل من الممكنات والتأويلات ما يكفي، شأنه شأن كل عمل مدروس ويصدر عن موهبة حقيقية:
– نصان جميلان أضعهما في ميزان ما تقدم من رؤى، كفيلان بتبيان كيف أن سالم استطاع عن طريق هذا التشكيل أو هذا النمط أو هذا الفضاء التعبيري الخاص أن يجد له طريقاً للخلاص والتحرر، من أسر النص الباكي والإفلات من سطوته ، مع وفائه لآلامه طبعاً ، على نحو يحقق لوناً من الرؤية الشمولية المتفائلة، وليحل به أزمة من أزمات النص الحديث… وهي التشاؤم وربما القنوط. تولة شعر
بوح : سالم عقاب
خفّ الظلام وعانق الصّبح الآفاق
والدمع نصفه داخل الجفن محبوس
وأنت انتعاشك تمتلي منه الأوراق
شرح وندى فرحه على كل قاموس
وينبع لك ألمًا من منابعه..رقراق
تستقبله كنّك على الشّطّ مغروس
خذ من بقايا عطر الألسن والأشواق
مايجعلك تفتن على كل ملبوس..!
يفداك هذا الغيث ..راعد ، وبراق
ويفداك سيلٍ سال توّه ومعسوس.!
ثم ابتسم للفجر يهديك الإشراق
لو قلت لي حظّ المحبين منحوس..!
والليل هذا ف أوله .. كل ما لاق
وحلم الموادع بـ آخره كان كابوس
واللي عطاك من الغلا كل ما فاق
ظنّك وتخمينك وماكان محسوس
إني على لا ماك ميّت ومشتاق
لكن جاء للروس من يفرق الروس
هذا كتابي بازرق الدمع..غراق
ولحن الهجيني صرت أغنّيه منكوس
••••••••
أعتذر لك مامعي..عذرٍ سمين أقوله
غير تقدير الظروف من العزيز الغالي..!
كلها الأعذار..لاجزلة ، ولا مقبولة..!
لَكن إني في غيابي .. ماتريّح بالي..!
لين حتى انساب صوتك وابتدا مفعوله
في سويداء القلب يرسم فنّه السريالي..!
وانكسر في كل عرقٍ من عروقي تولة
عطّرت كل القصيد وعطّرت موالي.!!