• كان ذلك الصباح غيره عن أي صباح آخر.. كانت شمسه المحرقة تحمل في أشعتها بردا وسلاما لاولئك الذين حفيت اقدامهم وهم يذهبون كل يوم الى رؤوس الحرار اللاهبة وحجارتها المدببة تخترق اقدامهم الحافية فلا تزيدهم الا اصرارا على المضي في انتظار القادم.
وكانت رؤوس النخيل المتمائلة نشوة بتلك الاجساد المفتولة والتي هدها الانتظار فلم يزدها الا لهفة وصبرا واستعذابا للقادم من الايام فراحت تتراقص شوقا وهياماً والاعين تنصب الى اطراف الافق البعيد وتعود في نهاية اليوم الى أكنتها وهي اشد املا في يوم اخر.
فكان صباح هذا اليوم الثاني عشر من شهر ربيع غير كل الصباحات فبعد ان انتصف النهار وكاد البعض يعود الى سكنه وهو يمني نفسه بيوم اخر لعله يحظى بما يريد.. وإذ بذلك الصوت من فوق تلك “الباسقة” يعلو يابني “قيله” هذا صاحبكم قد اقبل وتشرئب الاعناق وتخرج من بين خمائل الورد واشجار الفاغية تلك الشخوص لتتحول الى روح واحدة منشدة وهاجزة “طلع البدر علينا.. من ثنيات الوداع”.. تخيل ثنيات الوداع هذه لتكون ثنيات اللقاء أولا.
***
لقد بدأ الركب المبارك يقترب.. وتلك القصواء تتهادى في شموخ والكل يريد ان يكون له شرف الامساك بخطامها.. ويلتقي الكل حول الركب الشريف.. وينزل عند ذلك الاوسي كلثوم ابن الهدم ذلك الشيخ الوقور في قباء تلك الضاحية الهادئة الساكنة المسكونة بطيبة اهلها فتزدهي تلك الربوع وتتحول من ضاحية هادئة تغرد في بساتينها طيور “القماري” و”النغاري” وتنام مع غروب الشمس الى واحة تتحرك فيها الحياة لتبدأ نقطة التحول الجذري.. لتنام اول ليلة في حياتها وهي هانئة تنظر الى المستقبل نظرة لم يكن في حسبانها ان تكون صاحبتها في يوم من الايام ليضع فيها اول لبنات لاول مسجد على مربد للتمر لكثوم ابن الهدم اسس على التقوى ليمضي بعد ايام الى حيث اراد الله له المقام وكانت القصواء تتهادى بين الاحياء والكل يريد ان يكون له شرف الضيافة فيقول صلوات الله عليه وسلامه “دعوها انها مأمورة”.
***
ليصل جوار منزل ذلك الصابر ابو ايوب الانصاري الذي استضافه في منزله.
ويبدأ في وضع اسس الحياة السليمة لديه.. صارفا العقول عن كل دعواي الجاهلية والقبلية فالكل في حق الحياة سواء فهذا بلال العبد الحبشي يقول عنه عمر بن الخطاب رضي الله عنهما بلال سيدنا اعتقه سيدنا.. وهذا صهيب الرومي يأخذ مكانته في الاسلام رغم روميته وذلك سلمان الفارسي رغم فارسيته قال عنه المصطفى “سلمان منا أهل البيت”.. كأن هذه القوميات الثلاث الحبشي.. والرومي.. والفارسي.. لقربهما منه صلوات الله عليه اراد الاسلام ان يقول لنا ان لا شيء فوق الايمان الكل اخوة.. فكانت بداية وضع الاساس لحرب كل عنصرية.
***
كلكم لآدم وآدم من تراب هو المأخوذ به عنده..
ليكون يوم الهجرة يوم التحول الكبير في حياة الأمة من الخوف الى الأمان ومن الهمس الى الهجر بالحق.
لقد اخذ صلوات الله عليه وسلامه يضع قواعد الحياة لتكون بداية الانطلاق للمجد والسؤدد لينتشر هذا النور على كل الدنيا لتصبح هذه المدينة هي “المنورة” نقطة الارتكاز التي تدور حولها الحياة وبهجة الحركة..
إن يوم الهجرة يوم مشهود فلا يكفي ان نذكره كيوم عابر إنه يمثل نقطة انطلاق نحو محاسبة النفس ونسأل.
•• كيف كنا.. وأين أصبحنا..؟
•• ماذا أراد لنا ان نكون صاحب الرسالة الشريفة.. وإلى أين نحن سائرون..؟
•• هل تلك الاخوة التي غرسها نبي الله بين صحابته كانت لظرف طاريء أم انه كان يؤسس لمنهج حياة يريد ان يستمر؟
“لا فرق بين عربي وأعجمي الا بالتقوى”.
“لا تعودوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض”.
هذه الأسس العظيمة التي وضعها صلوا الله عليه نمر عليها صباح مساء وكأنها لا تعنينا.. انظر الى احوال المسلمين في كل أرجاء العالم ماذا يلاقون من بعضهم وليس من عدوهم.. وهم ليسوا من قلة ولكنه غثاء السيل..
ها هو شوقي يقول:
إِذا زُرتَ يـا مَولايَ قَـبرَ مُحَمَّدٍ
وَقَبَّلتَ مَثوى الأَعظُمِ العَطِراتِ
وَفاضَتْ مِنَ الدَمعِ العُيونُ مَهابَةً
لأَحْمَـدَ بَينَ السِـترِ وَالحُجُـراتِ
وَأَشـرَقَ نورٌ عنـدَ كُلِّ ثـَنِيـَّةٍ
وَضاعَ أَريجٌ تحتَ كُلِّ حَصاةِ
لِمُظهِـرِ دينِ اللهِ فَوقَ تَنوفَـةٍ
وَباني صُروحِ المجدِفَوقَ فَلاةِ
فَقُل لِرَسولِ اللهِ : يا خَيرَ مُرسَلٍ
أَبُثُّكَ مـا تَـدري مِنَ الحَسَراتِ
شُعوبُكَ في شَـرقِ البِـلادِ وَغَربِهـا
كَأَصحابِ كَهفٍ في عَميقِ سُباتِ
بِأَيْمـانِهِـم نُورانِ : ذِكرٌ ، وَسُنـَّةٌ
فَما بالُهُم في حالِكِ الظُلُماتِ ؟
وَذَلِكَ ماضي مَجدِهِم وَفَخارِهِم
فَما ضَرَّهُم لَو يَعمَلونَ لآتِ !؟
وَهَذا زَمانٌ أَرضُهُ وَسَماؤُهُ
مَجالٌ لِمِقدامٍ كَبيرِ حَيـاةِ
مَشى فيهِ قَومٌ في السَماءِ وَأَنشَؤوا
بَوارِجَ في الأَبـراجِ مُمتَنِعـاتِ
فَقُل : رَبِّ وَفِّقْ لِلعَظائِمِ أُمَّتي
وَزَيِّنْ لَها الأَفعالَ وَالعَزَماتِ
***
نعم ان هذه – الجاهلية – عادت الينا من جديد انها جاهلية – التعلم – والتعالم وليس العلم – المصحوب – بالمعرفة – الحقة – التي تنير – العقل – قبل أي شيء ليصبح الانسان انساناً قادراً على التميز بين الحق والباطل.
***
اننا في حاجة – ماسة – الى هجرة .. أخرى من الشر الى الخير .. من الظلم – الى العدل – ومن الظلمة الى النور.