جدة ــ البلاد
نقلة نوعية شهدتها العلاقات السعودية التركية ، منذ تولي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، حفظه الله، مقاليد الحكم في 23 يناير 2015 والرئيس التركي رجب طيب أردوغان الرئاسة في 28 أغسطس 2014.فلم تمض شهور قليلة على تولي الزعيمين سدة الحكم في بلديهما ، إلا وقاما بوضع أسس راسخة لعلاقة متنامية، قاما بتطويرها ووضع أطرها وملامحها من خلال قمم متتالية.
وتأتي زيارة الرئيس أردوغان إلى العاصمة الرياض في ثاني محطات جولة خليجية تستمر حتى 15 فبراير الجاري، بدأها بزيارة البحرين ويختتمها بزيارة قطر لتعزيز العلاقات الثنائية المتطورة.
9 قمم في 24 شهرا..رسائل ودلالات:
وتكتسب زيارة الرئيس أردوغان أهمية خاصة لأكثر من سبب، أولها أنها أول زيارة للرئيس التركي للرياض بعد عقد الدورة الأولى لمجلس التنسيق التركي السعودي، في العاصمة التركية أنقرة، قبل 6 أيام.
كما أنها أول قمة بين الزعيمين بعد تولي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الحكم في 20 يناير الماضي، الأمر الذي يستلزم تنسيقا بين قائدي أكبر وأهم اثنين من الدول الإسلامية في المرحلة القادمة.
كما أن قمة الزعيمين هي أول قمة تعقد بينهما خلال عام 2017، وذلك بعد 8 قمم سعودية تركية خلال عامي 2015 و2016 ، جمعت الرئيس أردوغان بقادة المملكة، بينها 5 قمم مع خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وقمتان مع ولي العهد، الأمير محمد بن نايف، إحداهما في نيويورك، 21 سبتمبر 2016، والثانية بأنقرة في 30 من الشهر نفسه، إضافة إلى قمة مع ولي ولي العهد، الأمير محمد بن سلمان، في مدينة هانغتشو الصينية، يوم 3 سبتمبر 2016.
كذلك فإن زيارة الرئيس التركي للرياض هي الثالثة له في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، إلى جانب زيارة منفصلة لتقديم العزاء في وفاة الملك عبدالله بن عبدالعزيز في يناير 2015.
وتعكس تلك القمم المتتالية والزيارات المتبادلة في وقت قريب وقصير، الحرص المتبادل بين قيادتي البلدين على التواصل والتباحث وتبادل الرؤى وتنسيق الجهود.
كما تكتسب تلك القمم أهميتها، من الثقل الذي يمثله البلدان، وتقارب رؤى الجانبين تجاه العديد من ملفات المنطقة.
وهذا ما لفت إليه الرئيس التركي ، خلال مؤتمر صحفي عقده بمطار “أتاتورك” الدولي بمدينة إسطنبول، الأحد، قبيل بدء جولته الخليجية ، حيث أكد أن بلاده تنظر إلى علاقاتها مع السعودية الشقيقة والصديقة من زاوية استراتيجية، خاصة “وأننا نولي أهمية بالغة لأمنها واستقرارها”.
وأكّد أردوغان أن بلاده أسست علاقات صادقة ووثيقة مع المملكة، خلال العامين الأخيرين على كافة الأصعدة السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية والتجارية وغيرها.
وتابع “ننظر إلى علاقاتنا مع السعودية الشقيقة والصديقة من زاوية استراتيجية، ونولي أهمية بالغة لأمنها واستقرارها”.
ولفت الرئيس التركي إلى أنه سيبحث مع الجانب السعودي خلال الزيارة، قضايا ثنائية وإقليمية، أهمها المستجدات الأخيرة في الأزمات المستمرة في سوريا والعراق واليمن.
ووفق نتائجها، سارت تلك القمم بخطى ثابتة وسريعة نحو تعزيز العلاقات المشتركة، إذ جرى وضع أسس راسخة لتلك العلاقات خلال القمم الأربع، التي شهدها العام الأول من تولي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز مقاليد الحكم.
والقمم الأربعة خلال 2015 هي: ثلاث مع خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان ، إحداها في 29 ديسمبر 2015 بالسعودية، وأخرى على هامش زيارته لمدينة أنطاليا التركية، في نوفمبر 2015، وقمة في مارس 2015 بالعاصمة السعودية الرياض، وأخيرا قمة بأنقرة، في 7 أبريل/ 2015، مع الأمير محمد بن نايف، وكان حينما وليا لولي العهد.
وتوجت قمم العام الأول من عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز باتفاق الدولتين على إنشاء مجلس للتعاون الإستراتيجي، خلال زيارة الرئيس أردوغان للمملكة، في 29 ديسمبر 2015.
وفي العام الثاني بلغ التعاون المتنامي بين البلدين ذروته، بتوقيع الرياض وأنقرة يوم 14 أبريل 2016، في مدينة إسطنبول التركية، على محضر إنشاء مجلس التنسيق السعودي التركي، بحضور خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز والرئيس التركي، وذلك في أعقاب القمة الخامسة بين الجانبين.
مجلس إستراتيجي.. منعطف جديد:
وعقدت الدورة الأولى من مجلس التنسيق السعودي التركي ، في العاصمة التركية أنقرة يومي 7 و8 فبراير الجاري برئاسة وزيري الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو ومعالي الأستاذ عادل الجبير، لتكون انطلاقة جديدة في مسار العلاقات بين البلدين نحو آفاق أرحب وعلاقات أقوى.
وقد وصف الجبير في مؤتمر صحفي مع نظيره التركي، الاجتماع الأول لمجلس التنسيق السعودي التركي الذي شارك فيه أكثر من 49 جهة في قطاعات مختلفة من البلدين بأنه كان “بناء ومثمرًا “.
وأعرب عن ثقته بأن يسهم هذا المجلس في تعزيز العلاقات في المجالات الأمنية أو العسكرية والثقافية والتجارية والتعليمية والعديد من المجالات لصالح البلدين، مؤكدًا حرص المملكة على تعزيز التعاون لمواجهة التحديات في المنطقة .
بدوره كشف وزير الخارجية التركي أنه تم تشكيل 8 مجموعات عمل مختلفة؛ لمناقشة التعاون الثنائي بين البلدين في عديد من المجالات، أبرزها السياسة والعمل الدبلوماسي، و الاقتصاد والتجارة والاستثمار والنقل البحري، والسياحة والصحة، والزراعة والبيئة، والصناعة والتسليح والطاقة.
تطابق كامل لصالح قضايا الأمة:
القمم والزيارات المتبادلة بين كبار المسؤولين في البلدين أسهمت في تقارب رؤى الجانبين تجاه العديد من ملفات المنطقة، إذ تحرص الرياض وأنقرة على التشاور والتنسيق بشأن القضايا ذات الاهتمام المشترك.
وأكد الوزير الجبير خلال المؤتمر الصحفي مع جاويش أوغلو الأربعاء الماضي أن هناك تطابقا كاملا في وجهات النظر بين البلدين في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية وأهمية إيجاد حل بموجب القرارات الدولية، والملف الليبي ومواجهة الإرهاب والتطرف والتدخلات في شؤون الدول.
وشدد على أن الموقف من سوريا “متطابق تمامًا” مع تركيا وهما اللتان شاركتا في تأسيس مجموعة أصدقاء سوريا التي تشمل عشر دول داعمة للمعارضة السورية “المعتدلة” .
وأضاف:” أن موقفنا هو أن نحافظ على وحدة سوريا وأمنها واستقرارها، وأن يستطيع الشعب السوري الشقيق أن يبدأ بدولة توفر رغبته وتحقق طموحاته “. ودعا إلى حل الأزمة السورية وفق مؤتمر (جنيف 1) والمبني على إنشاء هيئة انتقالية للسلطة ووقف إطلاق النار في عموم البلاد وإدخال المساعدات الإنسانية .
وفيما يتعلق بالتعاون الأمني بين المملكة وتركيا، أوضح ، أن التعاون قائم ، والمملكة تدعم الجهود التركية في مواجهة الإرهاب كما تدعم تركيا جهود المملكة في مواجهة الإرهاب .
وأضاف: “نحن نعتقد بأن “بي كا كا” وتنظيم “ب ي د” هي منظمات إرهابية ونحن نؤيد أي جهود للقضاء على الإرهاب في أي مكان في العالم.
بدوره، قال وزير الخارجية التركي إن تركيا ترى أمن واستقرار دول الخليج وعلى رأسها السعودية، من أمنها وسلامتها، مؤكدا أن ثمة توافق بين أنقرة والرياض في مختلف القضايا.
ووصف جاويش أوغلو توافق الرؤى التركية والسعودية حيال العديد من قضايا المنطقة بـ”الأمر الطبيعي”، وقال: “نحن نعمل من أجل أمن واستقرار المنطقة، ولدينا رؤية مشتركة لمكافحة الإرهاب”.
وبالتعاون مع دول الخليج العربي، وفي مقدمتها السعودية، تدعم تركيا، التي تترأس الدورة الحالية لمنظمة التعاون الإسلامي، قضايا الأمة الإسلامية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية.
كما تدعم أنقرة التحالف العسكري العربي، الذي تقوده الرياض منذ 26 مارس 2015، لدعم الشرعية في اليمن، وتتطابق وجهات نظرهما بشأن ضرورة إيجاد حل سياسي للأزمة اليمنية.
والمملكة على رأس الدول التي دعمت الشعب التركي وحكومته المنتخبة ديمقراطيا، في مواجهة محاولة الانقلاب الفاشلة، التي شهدتها تركيا منتصف يوليو الماضي، إذ أعلنت الرياض رفضها لمحاولة الانقلاب، وهنأ الملك سلمان الرئيس أردوغان بـ”عودة الأمور إلى نصابها في تركيا”.
تعاون عسكري متزايد:
النقلة النوعية التي شهدتها العلاقات بين البلدين زادت وتيرة التعاون المشترك في كافة المجالات، خاصة العسكري، حيث شهد عام 2016 أربع مناورات عسكرية مشتركة بينهما.
فقد شاركت القوات الجوية السعودية في تمرين “النور 2016” بقاعدة كونيا العسكرية وسط تركيا، في يونيو الماضي، وهي ثالث مناورة عسكرية تشارك فيها الرياض وأنقرة خلال شهرين.
وجاء هذا التمرين بعد نحو أسبوعين من اختتام تمريني “نسر الأناضول 4- 2016″، و(EFES 2016)، الذين أجريا في تركيا، مايو الماضي، وشاركت بهما السعودية.
و”نسر الأناضول 4-2016” هو أعرق وأكبر المناورات العسكرية المشتركة القتالية الجوية في العالم، كما يعتبر (EFES 2016) أحد أكبر التمارين العسكرية في العالم من حيث عدد القوات المشاركة وإتساع مسرح الحرب للتمرين بين مدينتي أنقرة وأزمير.
كذلك شاركت تركيا في مناورات “رعد الشمال”، شمالي السعودية، بين يومي 27 فبراير و11 مارس الماضيين، بمشاركة قوات من 20 دولة، إضافة إلى قوات “درع الجزيرة”، وهي قوات عسكرية مشتركة لدول مجلس التعاون الخليجي أنشئت عام 1982.
كما أقامت شركة “أسيلسان” التركية للصناعات العسكرية والإلكترونية بالشراكة مع المؤسسة السعودية العامة للصناعات العسكرية في الرياض مصنع للأجهزة اللاسلكية في ديسمبر الماضي.
ويعد مصنع الأجهزة اللاسلكية، يمثل انطلاقة مهمة للغاية في التعاون بين البلدين، في الصناعات العسكرية المتعلقة بالتصدي للحروب الالكترونية.
مكافحة مشتركة للإرهاب:
في إطار تعاون البلدين لمكافحة الإرهاب، حطّت مقاتلات تابعة لسلاح الجو السعودي، في قاعدة إنجرليك الجوية بولاية أضنة التركية (جنوب)، في فبراير الماضي، ضمن التحالف الدولي لمحاربة تنظيم داعش.
كما استضافت الرياض، منتصف يناير الماضي، مؤتمر رؤساء هيئة الأركان العامة في 14 دولة، هي تركيا والسعودية والولايات المتحدة الأمريكية وماليزيا ونيجيريا وتسع دول عربية أخرى، وأكدوا جميعا في ختامه مساندتهم لعملية “درع الفرات” لمحاربة داعش.
ودعما لقوات “الجيش السوري الحر” المعارض، وتحت اسم “درع الفرات”، أطلق الجيش التركي، بالتنسيق مع القوات الجوية للتحالف الدولي، فجر 24 أغسطس الماضي، حملة عسكرية في مدينة جرابلس السورية (شمال)؛ بهدف تطهير المدينة والمنطقة الحدودية من المنظمات الإرهابية، التي تستهدف الدولة التركية ومواطنيها الأبرياء.
وتركيا أيضا عضو بارز في التحالف العسكري الإسلامي لمحاربة الإرهاب، الذي أعلنت المملكة عن تشكيله في 15 ديسمبر 2015، ويضم 41 دولة.
تبادل تجاري بـ8 مليارات.. و250 ألف سائح:
على الصعيد الاقتصادي، شهدت العلاقات بين البلدين نموا لافتا، إذ نجح المستثمرون السعوديون في الحصول على مكانة متميزة في الاقتصاد التركي، فيما استفاد المستثمرون الأتراك من تنفيذ مشروعات بنى تحتية كبرى في المملكة، وأبرزها مشروع تجديد وتشغيل مطار الأمير محمد بن عبد العزيز في المدينة المنورة، بالشراكة مع شركة سعودية.
كما ارتفع حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى 8 مليارات دولار، في ظل جهود مستمرة لزيادته.
وفي تركيا توجد 800 شركة سعودية عاملة، مقابل قرابة 200 شركة تركية في المملكة، بحجم أعمال إجمالي يبلغ 17 مليار دولار أمريكي، ورأسمال يتجاوز 600 مليون دولار.
ولدعم وتشجيع العلاقات التجارية بين البلدين، ينشط بفعالية مجلس أعمال سعودي تركي، يضم رجال أعمال من البلدين.
ويرى خبراء اقتصاديون أن الشركات التركية يمكن أن تلعب دورا مهما في دعم أهداف رؤية “المملكة 2030″، الرامية إلى الاستغناء عن النفط كمصدر رئيس للدخل في السعودية.
كما ارتفع عدد السياح السعوديين لتركيا خلال السنوات الأخيرة بشكل كبير حتى وصل متوسط عددهم في أعوام 2014 و2015 و2016 إلى 250 ألف سائح في العام.
ولتلبية طلب السياح السعوديين المتزايد على السفر إلى تركيا، تم في 18 نوفمبر الماضي، تم تدشين رحلات مباشرة للخطوط الجوية السعودية إلى مطار “أسن بوغا” في أنقرة، قادمة من جدة والمدينة المنورة، لتصبح أنقرة المحطة الثانية للخطوط السعودية في تركيا بعد محطة إسطنبول (مطار أتاتورك الدولي).