حرب العراق هي أهم قضايا السياسة الخارجية في الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة إن لم تكن أهم قضايا الانتخابات على الإطلاق، فقد يرى بعض الأميركيين أن أوضاع الاقتصاد الأميركي المتردية باتت أولوية، ولكن الحرب تبقى قضية محورية قادرة على العودة بقوة والتأثير على مسار الانتخابات الرئاسية .ولم لا وحرب العراق كانت السبب الأهم وراء خسارة الجمهوريين انتخابات ٢٠٠٦، وهي خسارة هزت مؤسسات اليمين الأميركي الحاكم وأشعرت بعض قادته بأفول عصر سيطرة اليمين في أميركا خلال الجيل الراهن .
لذا لا ينبغي أن نتعجب إذا وقف المرشحان للرئاسة الأميركية باراك أوباما مرشح الحزب الديمقراطي وجون ماكين مرشح الحزب الجمهوري على طرفي نقيض من القضية الهامة، فكل مرشح هو تعبير صادق عن احتياجات وظروف حزبه في المرحلة الحالية .
وهذا لا يعني أن مواقف أوباما وماكين من العراق لا تتقاطع، فهي تتشابه في مناسبات محدودة هامة ولا تخلو من عيوب ونواقص .
الانتخابات التمهيدية في البداية تجب الإشارة إلى أن حرب العراق لعبت دورا هاما في حصول كل من باراك أوباما وجون ماكين على ترشيح حزبه في الانتخابات الرئاسية، فمن بين المرشحين الديمقراطيين الرئيسيين في الانتخابات التمهيدية وهم جون إدواردز وهيلاري كلينتون وباراك أوباما برز الأخير لكونه المرشح الذي عارض الحرب منذ البداية .
أما إدواردز فقد ساند قرار الحرب ثم عبر بعد ذلك عن ندمه، ووقفت هيلاري بجوار قراراها المساند للحرب ورفضت الاعتذار عنه، ويقال إن موقفها هذا كلفها ترشيح الديمقراطيين في الانتخابات الرئاسية الحالية التي كانت تعتبرها أمرا مقضيا .
أما ماكين مرشح حزبه الأبرز في دعم الحرب، فهو أحد الداعين والداعمين لها والمساندين لإستراتيجية زيادة القوات الأميركية بالعراق، حتى ليقال إن الإستراتيجية السابقة ارتبطت باسم ماكين وإنه صار أكبر داعميها خارج الإدارة الأميركية حتى ارتبطت
باسمه وصار سقوطها سقوطا له ونجاحها نجاحا له .
لذا يشار إلى أن تردي الأوضاع في العراق في أوائل عام ٢٠٠٧ كاد يقضى على أحلام ماكين الرئاسية خاصة مع عدم تمكن إستراتيجية زيادة القوات من العودة بفوائد سريعة في تلك الفترة، حتى أن ماكين ومساعديه فقدوا الأمل في الفوز بترشيح الجمهوريين .
ولكن الأوضاع تحسنت نسبيا في العراق خلال الثلث الأخير من العام فعادت معها آمال ماكين في الوصول إلى البيت الأبيض تنتعش .
لذا نحن أمام مرشحين متضادين تقريبا في موقفيهما من حرب العراق، وهو تضاد يبدأ من قرار الحرب ذاته عندما عارضه أوباما قبل أن يدخل مجلس الشيوخ الأميركي، لما رأى الحرب غير محددة التكاليف ولا العواقب ولا الإطار الزمني، ولما رأى أنها تشتيت
القوة الأميركية عن الساحة الأهم للحرب على الإرهاب وهي ساحة حرب أفغانستان .
أما ماكين فقد طالب بتغيير النظام العراقي منذ عام ١٩٩٨ أي قبل أن يصبح جورج دبليو بوش رئيسا، كما طالب بالحرب قبل أحداث ٩ – ١١ وبعدها، إذ رأى بعد الأحداث أن الحرب جزء من مشروع إعادة بناء الشرق الأوسط وأن العراق بعد غزوه سيصير نواة نشر الديمقراطية والقيم الأميركية في المنطقة وسوف يعيد رسم سياسات العالم العربي ونظمه على شاكلة ترضي أميركا وتحقق أمن إسرائيل .
الحرب على الإرهاب
وقد رأى ماكين منذ بداية حرب العراق أنها الجبهة الأولى والمركزية للحرب على الإرهاب، وهي حرب يرى أنها لا بد أن تنتهي بهزيمة أعداء أميركا هزيمة عسكرية وسياسية مذلة تثبت للعالم من هي أميركا وما هي تكلفة من يعصي الولايات المتحدة قطب العالم الأوحد .
لذا يتحدث ماكين عن \" الحرب على الإرهاب \" بمفهوم عسكري تقليدي بالأساس يقوم على تغيير النظم \" الراعية للإرهاب \" أو المناهضة لأميركا من خلال العمل العسكري المباشر أو من خلال دعم قوى المعارضة الداخلية في تلك الدول .
كما يرى ماكين ضرورة أن تصطف الدول المساندة لأميركا حولها في حلف سياسي عسكري لهزيمة الدول المناهضة لأميركا وحلفائها .
أما أوباما فيرى \" الحرب على الإرهاب \" كنوع من التعاون الدولي لمواجهة الشبكات الداعمة للإرهاب عبر العالم، تعاون فيه جزء عسكري كما هو الحال في أفغانستان التي يرى أنها الجبهة المركزية للحرب على الإرهاب، وفيه جزء بوليسي استخباري يتحقق
من خلال تعاون الدول في تتبع تنظيم القاعدة والجماعات المساندة له ومصادر تمويله ودعمه، كما يشمل التعاون الدبلوماسي، وآخر يتعلق بالدبلوماسية العامة يقوم على تفعيل دور مؤسسات الدبلوماسية والدعاية الأميركية في التواصل مع العالم الإسلامي .
والملاحظ هنا أن ماكين يبدو أكثر دراية بتطورات حرب العراق وتفاصيلها مقارنة مع أوباما، فقد زار ماكين العراق لأول مرة في أغسطس ٢٠٠٣ أي بعد الحرب بخمسة أشهر وقبل دخول أوباما مجلس الشيوخ الأميركي بأكثر من عام وثلث العام، كما زار العراق مرات عديدة منذ ذلك الحين .
وتبنى ماكين منذ عودته من الزيارة الأولى موقفا ناقدا لإستراتيجية الرئيس جورج دبليو بوش العسكرية في إدارة الحرب، إذ انتقد إستراتيجية وزير الدفاع الأميركي السابق دونالد رمسفيلد بشدة وأعرب تكرارا عن فقدانه الثقة في رمسفيلد، لأنه مصاب بعقدة فيتنام ويخشى الدفع بمزيد من الجنود الأميركيين في العراق خوفا من وقوع خسائر كبيرة، مما قد يحول العراق لفيتنام جديدة .
ولكن ماكين المحارب السابق رأى أن إستراتيجية رمسفيلد هي التي ستحول العراق لفيتنام جديدة، لذا طالب بالتعجيل بإرسال مزيد من القوات إلى العراق والإسراع في جهود إعادة البناء حتى لا يفقد العراقيون الثقة في أميركا ويتحولون ضدها .
أما أوباما فيبدو في ذلك الحين أقل وعيا بتفاصيل الحرب وأقل دراية بتطوراتها وحاجاتها العسكرية مقارنة مع ماكين الطيار السابق وسليل عائلة من قادة البحرية الأميركية .
كما أن أوباما أنفق عامه الأول في مجلس الشيوخ الأميركي ٢٠٠٥ مبتعدا عن الأوضاع عاكفا على التعلم، لذا تأخرت مبادراته السياسية الجادة تجاه الحرب التي عارضها منذ البداية، حتى أواخر عام .٢٠٠٦ كما ظهرت مواقف أوباما عامة مترددة بعض الشيء، ففي فترة رأى ضرورة إعطاء الفرصة للحكومة العراقية الجديدة لإثبات نفسها، ولكن مع تردي الأوضاع في العراق بدأ في النظر إلى الحرب على أنها حرب مفقود الأمل فيها لا يرجى منها شيء
وأنها باتت تكلفة شاقة يتحملها بالأساس الجنود الأميركيون وتبدد موارد أميركا الاقتصادية التي تحتاجها أحياء أميركا الفقيرة، كما أنها تهدر سمعة أميركا ومصداقيتها في العالم .
سحب القوات
والواضح هنا أن أوباما وماكين يتفقان في النظر سلبيا إلى الحكومة العراقية والسياسيين العراقيين، إذ عبرا في أكثر من موضع عن عدم ثقتهما في الساسة العراقيين .
وقد رأى ماكين أن عدم الثقة هذه تعني أن تبقى مسؤولية الحرب في العراق على عاتق الجيش الأميركي نفسه، لأن الحرب حرب أميركا، وأميركا وجيشها هما القادران فقط على تحقيق النصر في هذه الحرب، أما دور الجيش العراقي فهو دور مساعد فقط .
أما أوباما فقد رأى أن الساسة العراقيين ميؤوس منهم كالحرب تماما، وأنهم لن يتحركوا ولن يبحثوا عن حلول لمشاكلهم العديدة إلا إذا شرعت أميركا في سحب أو إعادة نشر قواتها خارج العراق .
لذا طالب أوباما بإعادة نشر القوات الأميركية خارج العراق في غضون ١٦ شهرا منذ أوائل عام ٢٠٠٧، ورفض إستراتيجية زيادة القوات الأميركية بالعراق، ورأى أنها لا جدوى منها، إذ لا حل لمشكلة العراق دون اتفاق الساسة العراقيين، وبمعنى آخر أن حل
مشكل العراق سياسي في أيدي الساسة العراقيين وليس عسكريا في أيدي القوات الأميركية .
لذا رأى أن سحب القوات الأميركية تدريجيا سوف يكون عامل ضغط قوي على الحكومة العراقية والسياسيين العراقيين للعمل على إيجاد حل سياسي لمشاكلهم .
والواضح هنا أن أوباما مرن فيما يتعلق بقضية سحب القوات فهو لا يحدد عدد القوات التي يجب سحبها ولا تواريخ سحبها ولا سرعة هذا السحب .
كل ما يريده هو سحب غالبية القوات في غضون ١٦ شهرا، والإبقاء على عدد غير محدد من القوات لفترة غير محددة لحماية مصالح أميركا ومكافحة الإرهاب وتدريب القوات العراقية .
أما ماكين فسحب القوات غير وارد بالنسبة له، فهو يقول أحيانا إنه يأمل في أن يحقق النصر في العراق بنهاية ولايته الأولى كرئيس لأميركا ( في حالة فوزه بالرئاسة ) أي في عام .٢٠١٣ ولكنه يرفض فكرة وضع سقف أو جدول زمني للانسحاب، بل يرى أن مجرد الحديث في ذلك الأمر دعم للقاعدة ولأعداء أميركا في العراق وفي الشرق الأوسط، دعم يشعرهم بأنهم ألحقوا الهزيمة والخزي والعار بأميركا في العراق وبأنهم قادرون على فعل الشيء نفسه في أفغانستان وفي أي مكان آخر من العالم .
فالانسحاب من العراق يعده ماكين انهيارا للمشروع الأميركي في العراق، وفي بناء الشرق الأوسط الجديد، وفي إعادة بناء عالم القطبية الأحادية بشكل عام .
لذا يقول ماكين بشكل متكرر إن \" الحرب على الإرهاب \" هي حرب أجيال وهي أهم تحد للجيل الأميركي الراهن، وأن العراق هو ساحتها الأساسية .
لذا يرفض ماكين توصيات \" مجموعة دراسة العراق \" الصادرة في أواخر عام ٢٠٠٦ التي تنادي بالبحث عن حل دبلوماسي إقليمي لقضية العراق من خلال تحريك عملية السلام الفلسطينية الإسرائيلية، والدخول في حوار مع الدول المجاورة للعراق وعلى رأسها سوريا وإيران وطلب دعمها في تحقيق استقرار العراق .
وبالطبع يرفض ماكين المهادنة مع إيران أو سوريا ويرى أنها علامة ضعف لا قوة سوف يساء استغلالها، كما يفصل ماكين بين الصراع العربي الإسرائيلي والحرب في العراق .
ماكين كالمحافظين الجدد يرى أن الصراع العربي الإسرائيلي له أسبابه التاريخية النابعة من موقف العرب الرافض لإسرائيل، وأن عدم استقرار الشرق الأوسط نابع من طبيعة نظم المنطقة غير الديمقراطية .
أما أوباما فهو يبدي استعدادا للدخول في حوار إقليمي ودولي مباشر حول سبل تفعيل الدبلوماسية الرامية لتحقيق استقرار العراق، وهو أمر يتماشى مع استعداده للدخول في حوار مباشر مع دول كإيران، ومع رغبته أيضا في تفعيل الدبلوماسية الأميركية على ساحة عملية السلام .
بين القنوط والصقورية
في الخاتمة لا يخلو موقف أوباما من عيوب، فهو يبدو قانطا من تحسن الأوضاع في العراق، مما يدفعه لسحب القوات الأميركية هروبا من المشكلة التي باتت بدون حل، لا اعترافا بحق الشعب العراقي في الحرية ولا بدين أميركا تجاه العراق، وإن كان قد
عارض الحرب منذ البداية وأبدى استعداده لإيجاد حل دبلوماسي يضمن استقرار العراق .
أما ماكين فهو صقر من أشرس صقور حرب العراق، لن يتواني عن الانقضاض على معارضي الحرب وأعدائها في أميركا وخارجها لو أتيحت له الفرصة ولو بعد حين .