جدة

الباعة المتجولون في الزمنِ الجميل (الجزء الثاني)

م.نبيل صالح صابر

عشنا ذكريات وقيماً لا تنسى في مقالي السابق ، مع الباعةِ المتجولين في الماضي الجميل وحتى السبعينيات الهجرية ، تجولنا مع بائعي الفاكهة ورأينا الترابط الاجتماعي في إكرام ومساعدة المحتاجين منهم. وعشنا مع فرقنا الذي قلل من خروج نسائنا إلى الأسواق!! والذي أظهر ثقته في نساء مجتمعنا ولاحظ أمانتهم في المحافظة على محتويات بقشته. وتذوقنا حلاوة المفتقة من يد سيدي حسين زغبي(رحمة الله عليه).
واليوم نعود لنتجول مع باعة متجولين آخرين ، متسللين بين أزقة وبرحات حواري جدة الخير الأربعة، راجيًا أن نستمتع معًا بإسترجاع بعض الذكريات الممتعة التي حفرت في الذاكرة!!! ، ونلتقط دروسًا من قيم الآباء والأجداد!!!.
ولنبدأ مع بائعي الفحم، كان معظمهم من مُحتطبي بني سُليم بوادي ستارة والكامل، وحَرةُ بني سُليم بطريق الهجرة النبوية بين مكة المكرمة والمدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” أنا ابن العواتك من سُليم” والعواتك ثلاث جداتٍ لأُم الرسول صلى الله عليه وسلم جميعُهن يحملن اسم عاتكة من قبيلة سُليم.كان بائعو الفحم يجولون في أزقة وبرحات حواري مدينتنا الجميلة….جدة الأمل والتفاؤل،
وبدلاً من أن ينادون بكلمة” فحم…فحم”كانوا يعرفون تذوق أهالي جدة للتفاؤل والألفاظ ذات الإرتباط بالأمل واستبعادًا لما يجلب التشاؤم….فكان الإخوة من بني سُليم يطوفون بأكياس الفحم قائلين: “يامُسَهِل…يامُسَهِل…يامُسَهِل” ويعرف الأهالي بذلك أنه بائع الفحم. ولا أتذكر أن مهمة شراء الفحم قد أُسْنِدت إلينا نحن الصغار في ذلك الزمان، وكنت أرى أحد أعمامي يضع الفحم في أحد الصنادق جوة (داخل)الحوش أمام برحة بيتنا ، وذلك على صناديق الشاهي الفارغة لحفظها حتى الحاجة للفحم الذي نستخدمه لإشعال كوانين الطبخ في المُرَكَبْ(المطبخ).
فلنكن دائمي التفاؤل في كل مانحن مقدمون عليه وكل ما نُعايشه.
أما بائعُ الفولِ النابت….. كان البائع المتجول الوحيد للفول النابت رجل أخنف (يُخرِج لفظ بعض الأحرف من أنفه) يتجول في النورية وباب مكة وأحيانًا يدخل سوق البدو ، شايل كروانة توتوه فيها الفول النابت مناديًا رحمة الله عليه (الفون النابت…. الفون النابت) ويعبي علبة حليب الكيكوز الفارغة( المكيال الذي يستخدمه) ويكبها في كيس الورق ويتوصى لنا ملء علبة الصلصة الصغيرة. وعلينا حمل الكيس بعناية حتى نوصل البيت و ذلك حسب توصية الوالدة،لأن الفول النابت يكون مبلول ويمكن ينشق الكيس.
والفول النابت يُسمى نابتاً لوجود نبتة خضراء اللون في رأس الفولة بعد أن تترك في الماء لفترة يوم كامل ثم تترك لفترة أخرى ملفوفة في قماش خفيف ويكرر رشه بالماء لمدة يومين أو ثلاث حتى تنبت حباته.
وطبعًا نكون نقينا الفول الطيب وتخلصنا من الحجارة ومن حبات الفول الخربانة ويقال في المثل”
“كل فولة مسوسة ولها كيال”
!!!
ونسوي شُربة الفول النابت بالثوم والكمون … وقالوا إنها تدفي وقت البُراد وتشفي بإذن الله من المغص وتُعَجِّل التئام الجروح!!! أما الفول النابت لمن نسوي منه فَتَّة وما أدراك ما الفَتَّة!! وخاصة بالعيش الحب وعليه حبات الفول بقشره بعد مانسقيه بالشربة، ونرش كشنة البصل والثوم مع شوية كمون ونعصر عليه الليمون أظن اللي ذاقها من قبل راح يدور على فول نابت لوجبة غذاء اليوم!!! أما أكلة الفول النابت الرئيسية فهي إيدام بالفول النابت بعد سلقه وتقشيره مع بهارات أمي الخاصة …. ويؤكل بالعيش الحب أو بالرز الأبيض المفلفل (حباته غير متماسكة ) طبعًا مع مخلل الليمون. وهذه ياناس أكلة لذيذة جداً لاتفوتكم…. وقليل مايتم تناولها هذه الأيام!!! تسلم يد مين كانت تطبخ لنا الفول النابت… ورحم الله من كان يُنبِته.
أما بائعي الترمس والحُلبة من الأخوة اليمنيين الذين يتجولون بكرواناتهم ، في نصها ترمس والنص الثاني حلبة نابتة.وفي الغالب نراهم يتجولون في الأزقة والحواري عصرًا ينادون”ترمس ترمس… والنافع الله ياحلبة”. وبالفعل يظهر عود الحلبة النابتة اللي لونه أخضر والذي يُستخدم لتنظيم مستوى السكر في الدم!!…
أما الترمس فيكون مسلوق ومنقوع في الموية لعدة مرات حتى نتخلص من مرارته وتخرج قشرته الشفافة بتحريكها بين أصابع اليد. وتباع الحلبة وكمان الترمس في قرطاس يتلف باليد وفوقه شوية ملح ، وتكون تصبيرة خفيفة إلين يجي موعد العشاء. للحلبة والترمس منافع كثيرة… والنافع الله سبحانه وتعالى.
أما بيَّاع الدنجو يتجول الأزقة والحواري عصرًا ينادي
“دنجو حلاوة ….شغل بنات الجاوه”
“فوفل سكر معقود شغل بنات إسطنبول”.الدنجو…. سكر محروق حتى يتغير لونه من أبيض إلى بني خفيف حيث يضاف مع السكر شوية زيت سمسم وشوية طحينة وشوية دقيق.
ويباع مدور على شكل كورة صغيرة جدًا…أو قطع مقطعة مربعات صغيرة… تسمى طبطاب الجنة.
وكلا الدنجو المدور وطبطاب الجنة تقدمان بعد رش دقيق ناعم حتى لا تتلصق عند التشكيل. ولا تؤكل ولكن تقرمش ويتم مصها. جهد كبير للحصول على الدنجو ويباع بقروش قليلة!!! ويتم عمله في البيوت في المناسبات الحلوة والأعياد….
دنجو حلاوة… دنجو حلاوة..
أما بائع البَليلة فيتجول بين الأزقة والبرحات منادياً” بليلة بلَّلوكي.. وسبعة جوار خدموكي… وبالخل والكمون خلًّلوكي” . البليلة أكلة مشهورة لانحتاج أن نقول عنها الكثير،فما زالت تباع في جميع حواري جدة القديمة وبعض الأحياء الجديدة. وأحلى بليلة المستوية والمتماسكة وطبعاً إللي تذوب في الفم،ولاتُؤكل إلا بالطرشي المقرمش مع الخل والليمون والكمون، وبالعافية عليكم….يفتخر كثيرٌ منا بمشاركته في بيع البليلة وخلافه، وكذلك العمل في عديد من المهن وكانت جزءاً من إعدادنا للمستقبل… بارك الله لمن وجَّهنا وأعدَّنا.
يكفي ما قدمته عن الباعة المتجولين،وأترك المجال لمشاركات وذكريات الآخرين.
اللهم ارحم من رحل من أهل الزمن الجميل واحفظ من بقي منهم….ربنا وأعِد علينا الخُلق الجميل في تعاملاتنا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *