[ALIGN=LEFT][COLOR=blue]ناجي نعمان[/COLOR][/ALIGN]
عندما نلتُ الجائزةَ العالميَّةَ الكبرى للشِّعر لعام ٢٠٠٢ من رومانيا \" في إطار أوَّل وآخر مهرجانٍ شعريٍّ أشتركُ فيه \" ، وكنتُ أوَّلَ عربيٍّ ينالُها، ارتجََلتُ، للمناسبة، كلمةً شَدَّدْتُ فيها على ما لَطالما رَدَّدْت : \" الكلُّ يَشْعُر، وما من شاعِر، بل مُحاوِل \" \" الرَّسائل، \";١٩٩٩ فالشَّاعِرُ الشَّاعِر، بالنِّسبة إليَّ، حدثٌ هامٌّ هامّ، ونادرٌ نادر، ولَئِن لَقِيَ قولي هذا استِحسانَ الجمهور ورجال الإعلام، فكانَ هُتافٌ وتصفيق، فقد أَزْعَجَ بعضَ الشُّعراء المُشاركين في المِهرجان، إلى مُنَظِّميه .
محمود درويش من هؤلاء الذين يَسري الشِّعرُ في عروقهم، ويَنضحُ من جباههم، ويمَرحُ في لُعابهم ; وهو، إلى إتقانه حَرَكيَّةَ الشِّعر، قويُّ العبارة، مَرِنُها بعامَّة، وإلى هذا كلِّه، وقبلَه، صاحبُ فِكْرٍ لإنسان، وفِكَرٍ لِقضيَّة، لا شِعرَ لديه للشِّعر، وإنمَّا لرسالة .
لا صدفةٌ ولا ميعادٌ جَمعاني بمحمود درويش .ثمَّ إنِّي، خارجَ نطاق عملي القائم على القراءة والكتابة طوال اليوم، بالكاد أقرأُ للغَير .ما جَمعني بفَقيد الكَلِمِ تمثَّلَ، عامَ ٢٠٠٤، بلائحةٍ ضمَّتْ أسماءَ مرشَّحين لجائزة \" بريمي إنترناسيونال كاتالونيا \" الشَّهيرة .
ولا أخفيكم أنِّي، حين قرأتُ بعضَ أسماء المرَشَّحين للجائزة، أيقنتُ أنْ لا أملَ لي فيها، ففي اللاَّئحة كبارٌ كبارٌ من هذا العالم، من كوفي أنان إلى نِلسُن مندِيلاَّ …نَعَم، أيقنتُ أنْ لا أملَ لي في الجائزة، لا بل قد يكون اسمي قد \" وَر َدَ فيها خطأً \" ، ولكنِّي أملتُ
أن يحظى عربيٌّ مُبدِعٌ بها، من مثل محمود درويش، أو ذاك العابِرِ الآخَر، يوسف شاهين .وكان أن تقاسمَ الجائزةَ في ذلك العام، وعلى غير العادة لجهة إمكان تقاسمها، الفلسطينيُّ الفيلسوفُ ساري نصيبه، والإسرائيليُّ الكاتِبُ أموس أوز، واشتَمَمتُ رائحةَ السِّياسة …
محمود درويش ليس في حاجةٍ إلى الجوائز، وإنمَّا الجوائزُ التي فاتَته تَبكيه اليومَ، تمامًا كما يبكيه أهلُه، وناسُه، ومُحبُّوه ; تمامًا كما يبكيه زهرُ ليمون فلسطين، ونخيلُ أرض العرب، وزيتونُ السَّلام العالميّ .
ألشُّهرةُ وهمٌ، لَطالما ردَّدتُ، والسَّاعي لها مريضٌ خائِفٌ لا انعِتاقَ يُرْتجَى له .وأمَّا العَيبُ الأكبرُ لدى الإنسان فالحَسَد، ولاسيَّما متى اقْتَر َنَ بالكَذِب .وأشقى الأشقياء، في عُرفي، هو حاسِدٌ يسعى للشُّهرة عبرَ الكَذِب، فهو، بإعماله، لا يَخْسَرُ الآخرين فقط،
بل، أيضاً، يَخْسَرُ نفسَه .
محمود درويش قد يكونُ سعى لشهرة، وإنمَّا من ضمن نرجسيَّةٍ معقولةٍ مَحمولَةٍ، لا بل مَطلوبةٍ لدى كلِّ صاحب قَلَمٍ وفَنّ .وهو كان صادقًا في ما ذهب إليه، وآمنَ به، والشُّهرةُ، بالتَّالي، تليقُ بأمثاله .
\" لا أخافُ الموتَ إلاَّ إذا دهمَني وما زالَ لديَّ، بَعدُ، ما أقولُه ; ويخافُني الموتُ دومًا، فأنا، متى مرَرْتُ عليه، فضحتُ حقيقتَه، فما عادَ الخوفُ منه لِيُجدي \" \" المُنعَتِق، .\" ١٩٩٦ بمِثل هذا الكلام واجهتُ، على طريقتي، الموتَ، وقيلَ حينَها إنِّي \" انتصرتُ عليه \" .
محمود درويش لم يَخَفِ الموتَ أيضًا، وانتصرَ عليه، على طريقته .ما أخشاهُ أنْ يكونَ عَبَرَ قبلَ أن يُعَبِّرَ إلى حدِّ الارتِواء، ومَن منَّا يكتفي كتابةً؟
لِذا، ولِذا فقط، أبكي اليومَ الشِّعرَ بمحمود درويش، كما بكيتُ من قبلُ الموسيقى بمحمَّد عبد الوهَّاب، والمغامرةَ بجاك – إيف كوستو .
نَعَم، أنا أبكي الإنسانَ بقيمته كإنسانٍ فَردٍ لا يتكرَّر .